آخر الأخبار
الرئيسية » إدارة وأبحاث ومبادرات » الاعتماد على القريب بين الثقة والعدل ..تأملات في فلسفة القيادة

الاعتماد على القريب بين الثقة والعدل ..تأملات في فلسفة القيادة

 

نضال رشيد بكور

إذا تولّى العدلُ أمرَ الناس ، خَفَتَ صوتُ النَّسَب ، وارتفع صوتُ الحقّ.
*حكمةٌ عربية قديمة*
في لحظةٍ من لحظات النبوّة التي تختلط فيها السماء بالأرض ، قال موسى عليه السلام:
*هارونَ أخي ، اشدد به أزري وأشركه في أمري*
لم يكن ذلك طلباً للمؤازرة العائلية
بل استدعاءً للكفاءة والثقة في ميدانٍ تُختبر فيه الأرواح لا الأنساب.
فما أشبه تلك اللحظة بواقع القادة في كل زمان ، إذ يقفون بين نداء القلب ووصية
القائد حين يتقلّد عبء المسؤولية لا يعيش في فراغٍ من العواطف
بل تحيط به شبكة من الوجوه المألوفة والأسماء القريبة.
وفي زحمة القرارات وأعاصير التحديات ، يحتاج إلى من يفهمه بنصف إشارة ، ويعينه بلا مواربة.
إن الاعتماد على القريب لا يَنتقص من الحكمة ، بل قد يكون امتداداً طبيعياً للثقة حين تُنقّى من الهوى وتُربط بالواجب.
لكن الخطر كل الخطر أن تتحوّل الثقة إلى ذريعة ، أو أن يصبح القرب ممراً خفياً للمصلحة .
فما بين الولاء والوليمة شعرةٌ واحدة : تُقطع إذا اختلطت النوايا بالجيوب.
من الظلم أن نُقصي القريب لأنه قريب ، كما من الظلم أن نمنحه ما لا يستحق لأنه قريب .
القرابة ، في معناها العميق ، ليست جريمة ولا وساماً
بل امتحاناً لضمير القائد وعدله.
القريب الذي يشارك في الحكم هو مرآة القائد أمام الناس:
فإذا صلح سُمِّيَ العدلُ عدلاً ، وإذا فسد خسر القائد شرعيته قبل أن يخسر أخاه.
القرب من السلطة لا يُقاس بالمسافة من القلب
بل بالمسافة من المصلحة.
وكلما اقترب القريب من المال والوساطة ، ابتعد عن معنى الأمانة ، لأن التجارة في ظل السلطة ليست تجارةً، بل خيانةٌ مستترة.
الفساد لا يولد فجأة
بل يبدأ من تفاصيل صغيرة : تسهيل ، صفقة وساطة ، أو وعدٍ في الظلّ.
تلك التفاصيل ، إن تُركت دون رقابة ، تتحوّل إلى شقوقٍ في جدار العدالة ، ثم إلى هاوية تبتلع ثقة الناس.
لذلك كان من واجب القائد أن يقطع تلك الخيوط ولو كانت من لحمٍ ودم.
حين يكتشف القائد أن أخاه ، الذي كان موضع ثقته ، قد خلط بين التكليف والتجارة ، وبين الأمانة والوساطة
فأقصاه من موقعه لا انتقاماً بل تطهيراً للمبدأ عندها لا نقول إنه قسا ، بل نقول إنه أنصف.
فالقائد العادل لا يحكم باسم الدم ، بل باسم الضمير.
وإذا كان العدل ميزان الله في الأرض ، فإن تطبيقه على القريب قبل البعيد هو ذروة النزاهة وشرف القيادة.
ذلك القرار ليس فصلاً بين أخوين
بل فصلٌ بين الحق والهوى.
ومن يقصيه اليوم حفاظاً على المبدأ ، إنما يُبقي له غداً مكاناً كريماً في ذاكرة العدالة.
فالأخوّة التي تصمد بعد العدل أصدق من ألف أخوّة تبقى على حسابه.
القيادة بين الرحمة والحزم
القيادة الحقّة ليست أن يُحسن القائد إلى أحبّته ، بل أن يحسن إلى وطنه بهم أو بدونهم.
فالقائد الرحيم هو من يحمي المبدأ من تسلّل الأهواء
والحاكم العادل هو من يقسو على الفساد وإن لبس ثوب القربى.
لقد كان موسى بحاجة إلى هارون ، ولكن لو خان هارون الأمانة ، لما تردّد موسى في إقصائه لأن الرسالة أثمن من القرابة
ولأن الحق لا يُقاس بعدد الأرحام
بل بوزن الضمائر.
إنّ الدم يجمعنا لحظة ، لكن العدالة تجمعنا تاريخاً.
والقيادة التي تبني قراراتها على النسب تموت بزوال الأشخاص ،
أما التي تبنيها على المبدأ فتبقى حيّة في ضمير الأمة.
فحين يتقدّم القائد على قرابته بالعدل ، ويرفع القانون فوق الاسم والعاطفة
يولد نوعٌ نادر من القيادة : قيادة تُربّي الأخلاق قبل أن تُدير السلطة ، وتُقيم العدل قبل أن تبني المجد.
ليس في اعتماد القائد على قريبه ما يُدان ، ما دام القريب أهلًا للثقة والنزاهة.
لكنّ الفضيلة الحقيقية تظهر يوم يُختبر العدل:
يوم يضع القائد المبدأ فوق العاطفة ، والأمانة فوق الأخوّة ، والوطن فوق الجميع.
في تلك اللحظة، يكتب التاريخ على بابه:
هنا كان قائدٌ أحبّ أخاه ، لكنه أحبّ الحق أكثر.
(أخبار سوريا الوطن2-الكاتب)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

نشاطات عديدة نفذتها هيئة التخطيط والإحصاء خلال شهر تشرين الأول الماضي

  تابعت هيئة التخطيط والإحصاء خلال شهر تشرين الأول، تنفيذ خططها التنموية، من تنظيم ورشات العمل التدريبية، وإعادة تأهيل الكوادر في مديرياتها، كما أجرت العديد ...