ا د هاني الضمور
منذ عقود، يُقال لنا إن الموارد محدودة، وإن الاحتياجات الإنسانية لا تنتهي، وإن السبيل الوحيد لتحقيق الازدهار هو من خلال الأسواق الحرة والمنافسة المطلقة. هذه الفرضية، التي قامت عليها الرأسمالية الحديثة، لم تؤدِّ إلا إلى مزيد من التفاوت، والأزمات المالية، واستغلال الدول الفقيرة، بينما تتراكم الثروات في أيدي قلة قليلة. لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس فقط عن مدى صحة هذه الفرضية، بل عن من يقف وراءها، ومن يستفيد من استمرار هذا النظام؟
الرأسمالية الحديثة.. نظام صُمم لصالح من؟
إذا نظرنا إلى الاقتصاد العالمي اليوم، سنجد أنه ليس اقتصادًا حُرًّا كما يُروّج له، بل هو نظام مُصمَّم بعناية لخدمة نخبة محددة من الشركات الكبرى والمصارف العالمية والمستثمرين المتنفذين. فمنذ تحرير الأسواق في الثمانينيات، أصبح الاقتصاد أشبه بلعبة مغلقة، حيث يتمتع من يملك رأس المال بالقدرة على توجيه القوانين والسياسات بما يخدم مصالحه.
الشركات متعددة الجنسيات تتحكم اليوم في كل شيء، من أسعار الغذاء إلى الطاقة، ومن التكنولوجيا إلى البيانات الشخصية. المؤسسات المالية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تفرض شروطًا على الدول النامية تجعلها عالقة في دوامة من الديون، مما يُبقيها في حالة تبعية اقتصادية دائمة. أما أسواق الأسهم، فقد تحولت إلى كازينو ضخم، حيث يتم التلاعب بالأسعار لتحقيق أرباح ضخمة لصالح المضاربين، بينما يدفع المواطن العادي الثمن من خلال التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة.
في كل أزمة عالمية، نجد أن من يدفع الثمن هم الشعوب، بينما تُحقق النخبة الاقتصادية مكاسب غير مسبوقة. خلال جائحة كورونا، على سبيل المثال، فقد الملايين وظائفهم، بينما زادت ثروات المليارديرات في العالم بمعدلات غير مسبوقة. الأزمات المالية المتكررة، مثل أزمة 2008، لم تكن نتيجة خلل عشوائي، بل كانت نتيجة سياسات مقصودة تستهدف تعزيز هيمنة رأس المال على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة.
هل الموارد نادرة حقًا؟ أم أن المشكلة في توزيعها؟
واحدة من أكبر الأكاذيب التي يروج لها هذا النظام هي أن الموارد غير كافية، وأن الصراع على الموارد هو أمر حتمي. لكن إذا نظرنا بعمق، سنجد أن الأرض قادرة على إطعام سكانها وأكثر، وأن المشكلة الحقيقية ليست في الندرة، بل في الاحتكار والتوزيع غير العادل.
نظام الاحتكار الذي تفرضه الشركات الكبرى يجعل الغذاء باهظ الثمن، رغم أن الإنتاج الزراعي العالمي يكفي لإطعام الجميع. أسواق الطاقة تخضع لمضاربات تجعل أسعار النفط والغاز تتأرجح وفقًا لمصالح المستثمرين وليس وفقًا لاحتياجات الناس. حتى المياه، التي هي حق إنساني أساسي، أصبحت سلعة يُضارب عليها في الأسواق المالية.
الحقيقة أن الاقتصاد العالمي لا يُدار وفقًا لمنطق الوفرة والاستدامة، بل وفقًا لمنطق الجشع والتكديس، حيث يُسمح بوجود فائض ضخم من الإنتاج، لكن لا يتم توزيعه بشكل عادل، لأن الهدف هو الحفاظ على الأسعار مرتفعة وضمان استمرار الأرباح للنخبة المسيطرة.
هل هناك بدائل؟ أم أن العالم محكوم بهذا النظام؟
في ظل هذه الحقائق، يبرز السؤال الأهم: هل هناك بديل لهذا النموذج الاقتصادي الظالم؟ أم أننا محكومون بالعيش في عالم تتحكم فيه الشركات والمصارف بلا أي مساءلة؟
هناك بالفعل بدائل بدأت في الظهور، لكن النظام الحالي يقاومها بشدة. بعض الدول بدأت في تبني نماذج اقتصادية أكثر عدالة، مثل الدول الإسكندنافية التي تطبق سياسات ضريبية متوازنة، وتوفر خدمات اجتماعية مجانية لمواطنيها. الاقتصاد الإسلامي يقدم نموذجًا آخر يقوم على مبادئ العدالة والتوزيع العادل للثروة، حيث يتم تحريم الفوائد الربوية، وتشجيع التكافل الاجتماعي من خلال الزكاة والوقف.
حتى على مستوى الأفراد، بدأ الناس في البحث عن طرق لتقليل اعتمادهم على هذا النظام، من خلال الاقتصاد التشاركي، والزراعة المستدامة، والابتعاد عن ثقافة الاستهلاك المفرط التي فرضها النظام الرأسمالي.
إلى أين يتجه العالم؟
العالم اليوم أمام مفترق طرق. إما أن يستمر في اتباع النظام الاقتصادي القائم، الذي أثبت فشله في تحقيق العدالة والاستدامة، أو أن يبدأ في البحث عن بدائل تُعيد توزيع الثروة وتضمن حياة كريمة للجميع.
ما يحدث اليوم ليس مجرد أزمة اقتصادية عابرة، بل هو نهاية مرحلة من التاريخ الاقتصادي وبداية مرحلة جديدة تتطلب إعادة التفكير في الأسس التي قامت عليها الرأسمالية. السؤال الآن: هل سنترك مصيرنا بيد نخبة مالية لا تهتم سوى بمضاعفة أرباحها؟ أم أننا سنطالب بتغيير جذري يعيد التوازن إلى الاقتصاد العالمي؟
الاختيار بين أيدينا، لكن التغيير لن يأتي بدون وعي جماعي وإرادة سياسية حقيقية
اخبار سورية الوطن 2_راي اليوم