| د. بسام أبو عبد الله
كتبت قبل عطلة عيد الفطر في صحيفة «الوطن» مقالاً بعنوان «زيلينسكي التركي!»، وقد أثار هذا المقال ضجة واسعة بعد أن أعادت نشرته صحيفة «آيدنليك» التركية الصديقة، وقدم تلفزيون «أولوصال» تقريراً عنه، وناقشه في برنامج صباحي، والمقال الذي أثار إشكالاً واسعاً ليس هدفه تأييد أردوغان ضد معارضيه كما فهم البعض للأسف، إنما هدفه تحليل ما تطرحه المعارضة التركية من مقاربات سياسية كي نفهم أكثر حقيقة ما يجري من دون أن ننساق وراء عواطفنا في منهج تحليل أقرب لعلم الألوان، الأبيض والأسود، كما اعتدنا، وسأحاول في ما هو متاح لي أن أتطرق للموضوع نفسه من زاوية أخرى هي علاقة تركيا مع الغرب، وتنامي الاتجاه الأوراسي بين أحزابها ونخبها السياسية والعسكرية.
تنازعت تركيا تاريخياً ثلاثة تيارات أساسية:
• تيار إسلامي تحدث عن الاتجاه نحو العالم الإسلامي جنوباً، وكان يمثله نجم الدين أربكان وتياره وتلامذته بشكل عام، باستثناء الذين انشقوا عنه وأسسوا حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، الذي اعتبره أربكان قبل وفاته أنه تيار موالٍ للغرب وللصهيونية.
• تيار التغريب «الأوربة»، الذي كان يرى أن تركيا يجب أن تكون جزءاً من أوروبا، وتنضم للاتحاد الأوروبي، وهذا الاتجاه كان موجوداً في الكثير من الأحزاب السياسية، والنخب الفكرية والثقافية، ويخدم مصالح الطبقة البرجوازية التقليدية في تركيا، وداخل المؤسستين العسكرية والأمنية، كما أن له جذوراً تاريخية منذ أيام السلطنة العثمانية.
• تيار العالم التركي شرقاً، حيث يتحدث هذا التيار عن وحدة العالم التركي من القوقاز باتجاه آسيا الوسطى، نحو البلقان في أوروبا، وهو اتجاه يميني قومي إن صح التعبير.
إن أي دراسة لتاريخ تركيا الحديث ستجد بصمة لهذه الاتجاهات الثلاثة مع ميل كبير نحو الغرب، وحذر شديد باتجاه الشرق، ليس كمفهوم جغرافي، إنما كمفهوم جيوسياسي، ومع تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، نشأ تيار جديد باسم «الأوراسية»، وهو تيار شجع على التقارب بين روسيا، وتركيا، ومثل هذا الاتجاه حزب «وطن» التركي بزعامة دوغو بيرنتشيك الذي لا يحظى بشعبية واسعة ضمن اللعبة الانتخابية الداخلية، لكنه حظي بدعم متزايد في أوساط الجيش، والنخب التركية المثقفة، وبرأي أصحاب هذا الاتجاه فإن مسار الانضمام للاتحاد الأوروبي كان مساراً كاذباً، وهدفه إبقاء تركيا ضمن حظيرة الغرب، ومنع تحولها نحو أن تكون قوة إقليمية مستقلة، كما أن الغرب هو من شجع على صعود الإسلاميين، وحرض الكرد على مشاريع لتفتيت بلدان المنطقة.
هذا الاتجاه الأوراسي يستند للإرث الكمالي، حيث يقول هؤلاء إن مؤسس الجمهورية التركية الحديثة كان قريباً جداً من لينين، وكان معادياً للإمبريالية الغربية التي كانت تعمل على تفكيك كل من الاتحاد السوفييتي سابقاً، وتركيا كذلك، ويرى هؤلاء أن مسار أتاتورك الاستقلالي والمعادي للغرب تمت خيانته من عصمت إينونو خليفته حتى وصول عدنان مندريس الذي انساق بالكامل لحضن الولايات المتحدة والغرب، تحت عنوان المظلومية الإسلاموية (1950-1960)، ولا يمكن أن ننكر هنا الترابط القديم بين اليسار التركي، والاتحاد السوفييتي، ومن المعروف أن حلف شمال الأطلسي استهدف بشدة قوى اليسار التركي، سواء بالاغتيالات أم السجن من الأنظمة العسكرية، وكنعان إيفرين أنموذجاً، وشكّل تنظيماً سرياً لتنفيذ ذلك اسمه «غلاديو»، وهو منظمة إجرامية سرية كانت تقوم بهذه العمليات ضد الأدباء، والمثقفين، والكتاب، والنقابيين، والشخصيات السياسية البارزة.
مع وصول حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي المحافظ للسلطة بدعم غربي واسع عام 2002، وبرنامجه الليبرالي الاقتصادي، وخطته للانضمام للاتحاد الأوروبي، والتزامه العلني بمشروع الشرق الأوسط الكبير، بدا واضحاً أن الاتجاه الأوراسي سيبقى محصوراً وغير قادر على الفعل والتأثير، ولكنه ظل أكثر تياراً فضح المشروع الأميركي الجديد لتقسيم دول المنطقة على أسس إثنية، وطائفية، وحارب سياسات الحزب الحاكم، وخاصة ما سمي العثمانية الجديدة، والأنموذج الذي روّج له الغرب «الإسلام والديمقراطية».
كان شريك أردوغان في السلطة فتح الله غولن، الذي يدير شبكة هي الأكثر عمالة للولايات المتحدة، وتعتمد عليها واشنطن في تنفيذ مخططاتها، وطُلب منهما تصفية التيار الأوراسي عامي 2007- 2008 لمعارضته الشديدة لمشروع الشرق الأوسط الكبير، وتم ذلك في قضيتين شهيرتين «إرغينيكون» و«بايلوز» حيث اتهم ضباط كبار في الجيش في ترتيب محاولة انقلاب على الحزب الحاكم، وجرى زجّهم بالسجن مع بيروقراطيين، وصحفيين، ونخب مثقفة مقربة من الاتجاه الأوراسي، وإضافة لذلك تمت عملية تصفية جسدية داخل السجون لبعض هؤلاء، وبالمناسبة فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمر في عام 2010 بإغلاق مدارس فتح الله غولن في كل الأراضي الروسية.
مع بداية عام 2011، وتعثر عملية الانضمام للاتحاد الأوروبي، وبدء العدوان على سورية، عاد التيار الأوراسي للنهوض مرة أخرى، وخاصة مع بدء الصدام بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وشريكه في الحكم فتح الله غولن في عام 2012، إذ كان غولن يعتبر نفسه سلطة موازية بشبكاته، وقواه المنتشرة داخل جسم الدولة التركية، وبدأ يكشف ملفات فساد لمسؤولين مقربين من أردوغان، كما عمل على اعتقال شخصيات مقربة منه عبر نفوذه في القضاء، وصولاً للانفجار الكبير في محاولة الانقلاب في تموز 2016، ونتيجة لهذا الصدام عمل أردوغان على إطلاق سراح كل الضباط، والنخب التي سجنها بالشراكة مع غولن، وأعاد الاعتبار لها وظيفياً، ومعنوياً، كما قدم الاعتذار عما حصل.
تحول الأوراسيون مع اليمين القومي التركي لداعمين أساسيين لأردوغان وحكومته، وخاصة بعد قيامه بحملة تطهير واسعة ضد جماعة غولن، وبدء تغييره التدريجي لسياساته في سورية بعد الانخراط الروسي في أيلول 2015، ودخول تركيا في مسار أستانا في كانون الأول 2016.
ومن أجل فهم أوضح لما حدث، دعوني أقدم الأسباب التي دعت لهذه التحولات:
• بدء نشوء خلافات بشأن المشروع الذي التزم به الحزب الحاكم مع الولايات المتحدة، أي موقف أميركا الصامت تجاه الرئيس المصري حينها محمد مرسي، ومن ثم تردد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في استهداف سورية في أيلول 2013، بعدما سمي تجاوز الخط الأحمر بحادثة الغوطة الشهيرة، التي نفذتها الجماعات الإرهابية آنذاك لاتهام الحكومة السورية.
• جمود الغربيين بشكل عام تجاه الملف السوري بعد التورط التركي المباشر.
• ملايين اللاجئين السوريين الذين تحولوا من ورقة رابحة إلى عبء كبير، وورقة ضاغطة على أردوغان، وعدم دعم الغرب المادي المستمر.
• تحول الحدود السورية التركية لمنطقة مضطربة، ومزعزعة للأمن القومي التركي.
• تخلي الولايات المتحدة والغرب عموماً عن تركيا، وتركها وحدها تتحمل نتائج المشروع الذي انخرطت به من خلال العدوان على سورية، أي «تقليع تركيا لشوكها بيدها»!
• صعود العامل الإثني الكردي، ودعم واشنطن العلني لمشروع ما يسمى الإدارة الذاتية على حساب العلاقة مع تركيا العضو في حلف الأطلسي، حيث اعتبرت واشنطن تنظيم «ب ك ك» حليفاً رئيسياً مقابل إهمال مخاوف تركيا الأمنية، علاوة على مقتل جنود أتراك بسلاح أمريكي زُود به التنظيم.
• الأهم هو أن مقاومة الشعب السوري وجيشه وقائده لهذا المشروع بدعم من حلفائه، وهو العامل الجوهري أصلاً، الذي دفع لكل هذه التداعيات التي أشرت إليها أعلاه.
الآن هناك تحالف حاكم يضم حزب العدالة والتنمية الأردوغاني، واليمين القومي بزعامة دولت بهجلي، ومجموعات أوراسية ويسارية معادية للغرب، إضافة لأحزاب دينية صغيرة، يخوض المعركة الانتخابية، لكن تنامي الأوراسية، والاتجاه شرقاً بالمعنى الجيوسياسي، سببه الأزمة العميقة بين تركيا والغرب، وتصاعد معادات الولايات المتحدة داخل المجتمع التركي وتياراته السياسية، وهو ما يعطي بوتين وروسيا فرصة لزيادة علاقاتها مع تركيا الدولة الهامة في التوازنات الجديدة القادمة.
صحيح أن عناوين الانتخابات وموضوعاتها تبدأ بالبصل والخيار لتصل إلى الدين والمذاهب، حيث يوجه المرشحون وقواهم السياسية الاتهامات لبعضهم بعضاً لأسباب تردي الوضع المعيشي والاقتصادي للمواطن التركي العادي، لكن جوهر الصراع العميق هو ليس على سعر البصل والخيار على أهميته، بل هو صراع بين اتجاهين واضحين، اتجاه يريد تنويع خيارات تركيا الاستراتيجية بما في ذلك الاتجاه شرقاً، واتجاه آخر تقوده المعارضة التركية تهدف من خلاله إعادة تركيا إلى الحظيرة الغربية بعد أن جلست فيها لأكثر من سبعين عاماً، ولذلك فإن هذه الانتخابات التي على الأبواب هامة وحساسة، ليس لتركيا فقط إنما للمنطقة والعالم أيضاً.
من هنا نفهم أكثر أن الأمر لا يرتبط بشخصية المرشح الرئاسي سواء أكان أردوغان، أو كلتيشدار أوغلو، وإنما يرتبط بالاتجاه الجيوسياسي الذي سيتعزز بعد الانتخابات وأين ستكون تركيا، هل شرقاً حيث القوى الجديدة البازغة، أم غرباً؟ هنا يكمن جوهر الصراع في الانتخابات التركية، فهو ليس انتخاباً لأشخاص، إنما تصويت لخيارات إستراتيجية، نحن في سورية جزء أساسي منها.
سيرياهوم نيوز1-الوطن