د. سلمان ريا
ليس الانتماء شعارًا نُردّده في المناسبات، ولا ورقة ثبوتية نُبرزها عند الحاجة.
الانتماء حالة وجودية، شعورٌ دافق يسكن الوجدان ويتجذّر في القلب، قبل أن يظهر على اللسان أو يُسطَّر في قانون. هو صوتٌ داخلي يقول لك: “أنت لست وحدك”، بل جزء من كيان، من قصة، من مصير مشترك.
في عالم يمورُ بالتبدّلات، ويستسهل فيه البعض تبديل المواقف كما تُبدَّل الأقنعة، يبقى الانتماء حجر الأساس الذي تُبنى عليه هوية الإنسان.
هو التزامٌ لا يُنتزع، وولاءٌ لا يُشترى، وعلاقة حبّ معقّدة لا تنفكّ عقدتها مهما تناءت المسافات أو قست الظروف.
حين تنتمي حقًا، لا يعني أنك تُغلق عقلك أو تصمّ أذنيك، بل يعني أنك تُبقي عينيك مفتوحتين على اتساعهما، محمّلتين بالمحبة والمسؤولية في آن.
الانتماء لا يطلب منك الخضوع، بل النهوض. لا يطلب منك الصراخ، بل أن تعمل بهدوء. لا ينتظر منك التصفيق، بل أن تبقى واقفًا حين يجلس الجميع.
وفي بلاد جرّبت الوجع حدّ التخمة، كبلادنا، يصبح الانتماء نوعًا من الصمود الداخلي، فعل مقاومة صامت، إيمانًا عنيدًا بأن ما بقي من الوطن لا يزال يستحق ما بقي فينا من حياة.
أن تقول “أنا أنتمي”، لا يعني أنك تُنكر الجراح، بل أنك تصرّ على تضميدها.
أن تتمسّك بالمكان، لا لأنّه كامل، بل لأنك ترى في ترابه ما يستحق الكفاح.
الانتماء ليس هروبًا من الذات نحو الجماعة، بل لقاءٌ معها؛
هو لحظة صافية ترى فيها نفسك في مرآة الآخرين، وتدرك أنك لست غريبًا في هذا الكون، بل لبنة في بناء أكبر، قصة ممتدة من الماضي إلى الحاضر، إلى ما لم يُكتب بعد.
ومن رحم الانتماء تولد الهوية… تلك الكلمة التي كثيرًا ما تُختزل في سمات خارجية، لكنها في الحقيقة كينونة متفاعلة، تنمو، تتغيّر، وتُصقل بالتجربة.
الانتماء الواعي يُنمّي الهوية ويُعمّقها، يمنحها جذورًا وأجنحة: جذورًا تربطها بالأصل، وأجنحة تمكّنها من التحليق خارج الأسوار الضيّقة.
أما حين يكون الانتماء قسريًا، مفروضًا أو مصلحيًا، فهو يُنبت هويات زائفة، هشّة، تتكسر عند أول عاصفة.
في هذا الزمن المتلوّن، نحن في أمسّ الحاجة إلى انتماء جديد:
انتماء لا يقوم على الطائفة أو المصلحة، بل على الصدق والرؤية المشتركة.
انتماء لا يُستخدم كعصا تأديب، بل كبوصلة للعبور الآمن في العواصف.
انتماء لا يُفكّر بالمكاسب، بل بالمصير؛ لا يخاف النقد، بل يحتضنه كضرورة للنضج.
المنتمي الحقّ لا يغادر، بل يصبر،
لا يُساوِم، بل يُصارح،
لا يلعنُ المكان، بل يُعيد بناءه لبنةً لبنة، وأملًا بأمل.
في نهاية المطاف، الانتماء ليس ما نقوله… بل ما نصير إليه.
هو ذلك الإيمان الهادئ، العميق، الذي يربط الإنسان بأرضه، بفكرته، بقضية عادلة لا تموت.
هو حين تصير الروح وطنًا، لا تُطالعه الخرائط، بل تكتبه الأرواح.
(موقع اخبار سوريا الوطن الالكتروني-2)