يتساءل المعرض عن تأثير انتزاع أيقونة ثقافية أو طبيعية من بيئتها الأصلية: هل تفقد هذه الأيقونة قيمتها ومعناها، أم أنها تتطور إلى كيان جديد يحمل دلالات مختلفة؟
الكاتب: ريمون أبو حيدر
ملخص
يكشف معرض الفنانة ليلى جبر جريدني، بعنوان “باوباب: شجرة الحياة”، في غاليري جانين ربيز، عن الأبعاد الأسطورية والبيئية لشجرة الباوباب. يستند المعرض إلى تجربة شخصية عميقة للفنانة مع هذه الشجرة، متجسدة في أعمال التطريز والخياطة، إلى جانب الرسم والنحت.
تستلهم الفنانة موضوعها من أسطورة عربية ورواية “الأمير الصغير”، التي تركت أثراً فيها منذ طفولتها، وهو تأثير تعزز لاحقاً باكتشافها لأشجار الباوباب في زنجبار. في أعمالها، تستعرض غرابة هذه الشجرة، غموضها، ومرونتها، وتطرحها بأسلوب يمزج بين الحرفية التقليدية والفنون البصرية، بالإضافة إلى تركيب نحتي من خشب الخيزران. ومن خلال دمجها بين العالم المادي والأسطوري، تدعو الفنانة المشاهد للتأمل في موضوعات النزوح والهجرة، والتحمل، والوعي البيئي، مما يجعل شجرة الباوباب رمزاً للذاكرة الثقافية وعجائب الطبيعة، حيث يتقاطع العالم المادي مع البعد الأسطوري.
يمزج المعرض بين الأسطورة والذاكرة والحرف اليدوية، مسلطاً الضوء على البُعد الرمزي والجمالي لشجرة الباوباب. ومن خلال هذا المزج، يفتح التفاعل فضاءً تتقاطع فيه التجربة الشخصية مع السرديات البيئية، إذ توظّف جريدني المنسوجات والرسم وسائل تعبيرية تكريماً لهذه الشجرة. تجسد من خلال أعمالها الفنية علاقتها الحميمة والملموسة بالموضوع، مما يتيح للمشاهد التفاعل على المستويين العقلي والجسدي، ويؤسس لحوار نابض بين الأسطورة والذاكرة، مع التركيز على “الخطاب البصري” الذي تحمله كلُّ قطعة فنية.
يهدف المعرض إلى إحياء ذاكرة شجرة الباوباب، المعروفة أيضاً بأسماء مثل شجرة التبلدي، الشجرة المقلوبة، وشجرة خبز القرود، إلخ…، نسبةً إلى فاكهتها الغريبة.
تتبنى جريدني نهجاً تعبيرياً مستلهمةً منه العودة إلى الطبيعة (فطريتها الأولى)، مما أتاح لها ابتكار مساحات تجريدية في أعمالها الفنية، حيث تتلاعب بالأشكال وتوظف الرمزية في تفاعل حيوي مع المواد الخام.
بين الأسطورة والواقع
تعمّق جريدني في الطبيعة السوريالية لشجرة الباوباب، ليس ككيان نباتي فحسب، بل كوعاء للوقت والأسطورة والبقاء. تمزج بين الأسطورة والروحانية، وبين الغموض والطبيعة، وبين الثقافة والتجربة الشخصية. تشير إلى أسطورة عربية تصف شجرة الباوباب بأنها “نتيجة اقتلاع الشيطان لها من جذورها، وغرس أغصانها في الأرض، تاركاً جذورها مكشوفة نحو السماء”، مما يضفي على العمل بُعداً تأملياً ويعزز حضور الشجرة في عالم آخر.
الباوباب كرمز للبيئة والذاكرة
يدعونا المعرض إلى التأمل في مفهومي الوعي البيئي والذاكرة الثقافية. وكشجرة بيئية، تثير قضايا تغيّر المناخ والتدمير البيئي، بينما تعكس علاقتها بالفنانة شكلًا من أشكال المقاومة الثقافية. تضفي الألوان النابضة بالحياة والملمس الممزوج بالأساطير والمشحون بالديناميكية الحسية جواً غنياً، يحفّز التفكير في توازن النشاط البشري مع البيئة والطبيعة.
التأثير الشخصي والتقنيات الفنية
تمثل شجرة الباوباب عنصراً حيوياً في وجدان الفنانة، إذ تأثرت برواية “الأمير الصغير”، التي قدمت هذه الشجرة ككيان حيوي مهدد في آنٍ واحد، مما أثار إعجابها المبكر بالثنائية الرمزية لهذه الشجرة. ثم تعمّق هذا التأثير بعد لقاء حقيقي مع هذا النوع من الأشجار في زنجبار. ويتجلى هذا التفاعل العاطفي في استخدامها تقنيات التطريز والنسيج، المتأثرة في ذكرياتها عن معمل نسيج أسسه جدها في منطقة الحدت في بيروت في ثلاثينات القرن الماضي، والذي أغلقته الحرب اللبنانية. ودفعها هذا الحنين إلى استعادة أدوات المعمل ودمجها في أعمالها. وعبر طبقات من الخيوط، تمكنت من خلق ملمس فني غني ومعبّر. تحيي الفنانة تقاليد الحرف اليدوية، وتحول المنسوجات إلى وعاء للذاكرة والأسطورة، لتضفي على تجربتها الفنية بُعداً تاريخياً ومادياً.
الباوباب كنسيج ثقافي
في لبنان، لطالما كانت المنسوجات بمثابة أوعية للتاريخ، تحمل ثقل التجارة والهجرة والتراث الفني. في هذا المعرض، تظهر شجرة الباوباب على السجاد والمنسوجات، مدمجةً في نسيج ثقافي جديد، يجمع بين الأساطير الأفريقية والتقاليد العربية والمحلية. وهكذا، تتحول الباوباب من مجرد عنصر نباتي إلى كيان فني يتجاوز الحدود.
التجريد والتركيب الفني
توسّع جريدني في اكتشافها الفني، باستخدام الألوان المائية في بعض اللوحات الصغيرة، إلى جانب إنشاء تركيب نحتي بارز من خشب الخيزران. يفتح هذا أفقاً جديداً، يبني حواراً بين المواد الطبيعية والفن، تفسير هذا النوع من الأشجار كرمز للمرونة والقوة. وجود الشجرة في المعرض يعزز الفكرة الرئيسية، وهي أن الحياة، مثل الفن، عملية حياكة بين الماضي والحاضر، وبين الهشاشة والمرونة.
ازدواجية الباوباب بين القوة والهشاشة
يعكس التفاعل بين المنسوجات والألوان المائية والأشكال النحتية ازدواجية شجرة الباوباب. فهي، رغم ضخامتها، تتمتع بهشاشة خاصة، تمنحها حضوراً قوياً وحساساً في آنٍ واحد. ترفع جريدني الحرفة اليدوية إلى مستوى التسامي، بحيث يصبح كل خيط وكل غرزة وعاءً للذاكرة والأسطورة والوعي البيئي.
نسج الذاكرة والأسطورة والمادة
يرتكز المعرض على مستويات متعددة من المعنى: الأسطوري، الشخصي، والثقافي، ليتناول الباوباب كرمز للصمود والتجذر في الذاكرة الجماعية. يمكن فهم شكلها الغريب وتحولها الأسطوري إلى شجرة مقلوبة عبر نظريات السمو، إذ تتحدى الطبيعة الخام الفهم البشري وتثير الرهبة والخوف. يرتبط شكلها الغريب بمفهوم “الغرابة” الفرويدي، الذي يطمس الفاصل بين “غير المألوف والمألوف”.
من خلال الحياكة والتطريز والرسم، تحوّل جريدني شجرة الباوباب من مجرد عنصر طبيعي إلى إبداع حرفي وفني ذي رمزية خاصة، في ما يمكن اعتباره استعادة للسيطرة على هذا الرمز الطبيعي، الذي غالباً ما يُساء فهمه.
يتجاوز المعرض التقدير الجمالي، ليطرح قضايا الوعي البيئي والحفاظ على التراث الثقافي. شجرة الباوباب، كشاهد على الزمن، صامدة منذ أكثر من 1275 عاماً، لكنها أيضاً رمزٌ للهشاشة البيئية. ومن خلال دمج هذه الأشجار في الخطاب البصري، فإن الفنانة ليلى جبر جريدني لا تُكرّم إرث هذه الشجرة فحسب، بل تلفت إلى المخاطر التي تواجهها بسبب التغيرات المناخية وإزالة الغابات.
التأمل في العلاقة بين الطبيعة والثقافة
إن التفاعل بين الأسطورة، والعالم المادي، والوعي البيئي يجعل هذا المعرض أكثر من مجرد تكريم بصري؛ بل هو تأمل في العلاقة بين الطبيعة والثقافة البشرية. قدرة الفنانة على ترجمة جوهر شجرة الباوباب عبر وسائط متعددة، مثل التطريز، والنسيج، والرسم، والنحت، تعكس تبجيلاً عميقاً لهذا الرمز الطبيعي بكل أبعاده، سواء في شكله المادي أو في قوته الروحية والرمزية.
الأهمية الثقافية والبيئية
تنبثق عن “شجرة الحياة” أطرٌ لنظرياتٍ متعددة، تتناول موضوعات النزوح، والمادية، والمرونة، مما يعزز المفاهيم الأساسية للمعرض.
تمثل شجرة الباوباب، التي انتُزِعت من تربتها الأصلية وأعيد تشكيلها في أرضٍ جديدة، تجسيداً للتجربة الأوسع للهجرة الثقافية، والفقدان، وإعادة البناء.
يتساءل المعرض عن تأثير انتزاع أيقونة ثقافية أو طبيعية من بيئتها الأصلية: هل تفقد هذه الأيقونة قيمتها ومعناها، أم أنها تتطور إلى كيان جديد يحمل دلالات مختلفة؟
تلعب نظرية العالم المادي والحفاظ على البيئة دوراً حاسماً في هذا المعرض. فمن خلال الخياطة والنسيج، لا يقتصر دور الفنان على تصوير شجرة الباوباب فحسب، بل يُعيد بناءها مستخدماً عناصر توحي الهشاشة، لكنها في جوهرها تعكس الصمود. يتحول الفن هنا إلى فعل من أفعال الحفاظ على إرث الطبيعة، تماماً كما يُحافَظ على الحرف اليدوية وصناعة المنسوجات التقليدية، التي لطالما استُخدمت وسيلة لحفظ التاريخ.
علاوة على ذلك، تلتقي الأسطورة بالنظرية البيئية في إعادة تصور الفنان لشجرة الباوباب، التي ليست مجرد شجرة، بل هي شاهدة على الزمن، صامدة لقرون في تحدٍّ للزوال. لذا، يمكن اعتبار عمل الفنان تأملًا في الضياع البيئي واعترافاً بهشاشة حتى أكثر الرموز الطبيعية رسوخاً.
ثمّة أيضاً نظرية التوفيق الثقافي، وهي الطريقة التي يُعاد بها تفسير الرموز واستيعابها وإعادة تشكيلها عبر الثقافات. في لبنان، البلد الذي يحمل تاريخه الخاص في الصمود والنزوح والتكيف، تكتسب شجرة الباوباب معنى جديداً في هذا المعرض. لم تعد مجرد شجرة أفريقية، بل أصبحت رمزاً عالمياً للبقاء. وفي جوهرها، لا تدور حول الحنين إلى الماضي، ولا حول أسطورةٍ بعيدةٍ تجمّدت في الزمن، بل تتمحور حول الحركة، والتحول، والاستمرارية.
شجرة الباوباب، سواء خُيِّطت على قماش، أو نُسِجت في طبقات، أو رُسِمت بأسلوب تجريدي، ترفض أن تكون مجرد نصب تذكاري ثابت. إنها تتحرك، وتنمو، وتتجذر في أماكن غير متوقعة.
في النهاية، تبقى شجرة الباوباب لغزاً، لكنه يظل حاضراً في خيوط التاريخ البشري، وبفضل يدي الفنانة، تستمر في النمو، حتى بجذورها في الهواء.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _النهار اللبنانية