آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » البراغماتية: فلسفة العمل والتجربة في مواجهة تحديات العصر

البراغماتية: فلسفة العمل والتجربة في مواجهة تحديات العصر

 

د. حمدي سيد محمد محمود

 

 

“الفلسفة البراغماتية (Pragmatism) هي تيار فلسفي نشأ في الولايات المتحدة خلال أواخر القرن التاسع عشر، ويُعتبر أحد التيارات الفلسفية المؤثرة التي ركزت على قيمة الفكر والعمل في الحياة العملية. تتميز هذه الفلسفة بأنها تضع النتائج والتطبيقات العملية في صلب النظرية، بعيدًا عن الميتافيزيقيا المجردة والبحث عن الحقيقة المطلقة.

 

الجذور التاريخية والتطور

 

النشأة والتأسيس:

 

ظهرت البراغماتية كرد فعل على الفلسفات الأوروبية التي كانت تميل إلى التجريد والتنظير.

يُعتبر الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس (1839-1914) المؤسس الأول للبراغماتية، وقد قدم أسسها النظرية من خلال مقالاته مثل “كيف نوضح أفكارنا” (1878).

 

التوسع والتأثير:

 

واصل ويليام جيمس (1842-1910) تطوير الأفكار البراغماتية، وركز على التجربة الفردية والتطبيق العملي في كتابه “البراجماتية: منهج جديد لربط الأفكار” (1907).

أضاف جون ديوي (1859-1952) بُعدًا اجتماعيًا وتربويًا، حيث أكد على أهمية التعليم كأداة لتغيير المجتمع.

 

الفلاسفة اللاحقون:

 

استمرت البراغماتية في التأثير من خلال شخصيات مثل ريتشارد رورتي الذي أعاد إحياء البراغماتية في القرن العشرين، وركز على ارتباطها بالليبرالية والديمقراطية.

 

المبادئ الأساسية للفلسفة البراغماتية

 

العملية والتجربة:

 

– الحقيقة ليست مطلقة بل متغيرة وفقًا للسياق والتجربة.

– لا تُعرَّف الحقيقة بمفهوم مجرد أو نظري، بل بما يثبت نجاحه عمليًا.

 

الفكر كأداة:

 

الفكر ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لحل المشكلات وتحقيق الأهداف.

“القيمة الحقيقية لأي فكرة تعتمد على تأثيرها العملي”، وفقًا لجيمس.

 

النفعية والنتائج:

 

الأفكار تُقيَّم بناءً على ما تُحدثه من نتائج مفيدة أو ضارة.

التركيز على “ما يعمل” بدلاً من “ما يجب أن يكون”.

 

النقد للميتافيزيقيا:

 

البراغماتية ترفض الميتافيزيقيا التقليدية التي تبحث عن حقائق خفية وعميقة.

تدعو إلى تبني منهج علمي وعملي في التفكير.

 

البراغماتية والحقول المختلفة

 

في السياسة:

 

– البراغماتية تدعو إلى تبني سياسات مرنة تستجيب لاحتياجات المجتمع.

مثال: العديد من الأنظمة الديمقراطية الحديثة تتبنى منهجًا براغماتيًا يوازن بين المبادئ الثابتة والواقع المتغير.

 

في التعليم:

 

– أكد جون ديوي على أهمية التعليم العملي الذي يُعد الفرد للحياة الواقعية.

– يرى أن التعليم يجب أن يكون تجربة مستمرة ترتبط بمشكلات الحياة اليومية.

 

في الأخلاق:

 

– الأخلاق وفق البراغماتية ليست قائمة على قوانين مطلقة بل على القيم التي تخدم الأفراد والمجتمع.

– تُقيَّم الأفعال بمدى تحقيقها للخير العام.

 

في العلم:

 

– ترى البراغماتية أن النظريات العلمية ليست حقائق ثابتة بل أدوات تُستخدم لتفسير الظواهر.

– إذا أثبتت نظرية نجاحها في التطبيق العملي، تُعتبر “حقيقية” حتى تُستبدل بأخرى أكثر فاعلية.

 

نقد البراغماتية

 

الاتـ. هام بالنسبية:

 

– يُنتقد البراغماتيون لأنهم يرون الحقيقة متغيرة ومتأثرة بالسياق، مما يجعلها عرضة للنسبية.

– يرى النقاد أن هذا يضعف الأساس الفلسفي للأخلاق والقيم.

 

غياب المعايير الثابتة:

 

– عدم وجود معايير ثابتة قد يؤدي إلى فوضى فكرية أو عملية.

 

التوجه المفرط نحو النفعية:

 

– التركيز على النتائج العملية قد يغفل القيم الإنسانية العميقة أو المبادئ الأخلاقية.

 

البراغماتية في السياق العربي

 

لم تحظَ البراغماتية بانتشار واسع في الفكر العربي، إلا أن بعض المفكرين العرب استلهموا مبادئها مثل التوجه العملي في السياسة أو الإصلاح.

يتجلى تأثير البراغماتية في بعض المشاريع الفكرية الحديثة التي تركز على تجاوز الصـ. را عات النظرية إلى البحث عن حلول عملية.

 

وفي المجمل، تعدُّ الفلسفة البراغماتية تيارًا فكريًا مرنًا وواقعيًا، ساهم في صياغة أسس الحداثة في الولايات المتحدة، وأثر على مجالات متعددة. قوتها تكمن في قدرتها على التكيف مع تغيرات الواقع، لكنها تواجه تحديات في الحفاظ على الاتساق الفكري في ظل رفضها للحقيقة المطلقة.

 

تظل الفلسفة البراغماتية أحد أبرز التجارب الفكرية التي نمت في تربة الفكر الغربي، مُحدثة ثـ. ور . ة عميقة في فهمنا لدور الفكر في الحياة الإنسانية. إذ جعلت البراغماتية من “العمل” و”التجربة” و”النتائج” المعيار الأوّل للأفكار الصحيحة والنافعة، وأكدت على أن الحقيقة لا تُقاس بمعايير ثابتة أو نظرية بحتة، بل بقدرتها على تحسين حياة الإنسان وتحقيق رفاهيته في العالم الملموس. وبهذا المنظور، تحدت البراغماتية كافة الاتجاهات الفلسفية التي بحثت في معايير ثابتة وغير قابلة للتغيير، داعية إلى فكر عملي مرن يتفاعل مع المستجدات ويجيب على الأسئلة الحقيقية التي تطرحها الحياة.

 

ومن خلال مساهماتها العميقة في مجالات متنوعة مثل السياسة والتعليم والأخلاق والعلم، فإن البراغماتية قد قدمت لنا أداة فكرية قادرة على تجاوز الفوارق بين النظرية والتطبيق، لتفتح أمامنا آفاقًا جديدة من الفهم والتطوير. فهي تدعونا إلى تبني منهج يركز على حلول عملية تواجه التحديات اليومية، بدلاً من الانغماس في التفوق الفكري النظري الذي قد يظل بعيدًا عن واقعنا الحي.

 

رغم الانتقادات التي تعرضت لها البراغماتية بشأن نسبية الحقيقة واختزالها للقيم إلى ما هو عملي ومباشر، فإن فلسفتها تبقى بمثابة دعوة للإنسان ليكون جزءًا من حركة الحياة المتجددة، لا مجرد مراقب لها. ففي عالم اليوم، الذي يعج بالتحديات والتغيرات السريعة، لا تزال البراغماتية تقدم لنا نموذجًا مرنًا يُمكّننا من مواكبة هذه التغيرات، ويحثنا على اتخاذ قرارات مدروسة بعين فاحصة ويد فاعلة.

 

وفي السياق العربي، رغم قلة تأثير البراغماتية التقليدية، فإن الحاجة إلى فلسفة عملية وواقعية تزداد بشكل ملحوظ، خصوصًا في مواجهة الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها المنطقة. قد تكون البراغماتية إحدى المفاتيح لفهم ديناميكيات هذه التحديات وتحقيق حلول مبتكرة ومستدامة.

 

ختامًا، تظل البراغماتية أكثر من مجرد نظرية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

فنانو سوريا: لن نقبل المساس بحريتنا

    أطلقت مجموعة من المفكرين والفنانين والحقوقيين السوريين المعروفين، أخيراً، عريضة عبر مواقع التواصل الإلكترونية، للمطالبة بحماية الحريات في سوريا في المرحلة الجديدة، وإجراء ...