ما من شكّ في أن كلمة الرفيق الدكتور بشار الأسد، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي في افتتاح الاجتماع الموسّع للجنة المركزية للحزب قد شكلت حدثاً مفصلياً في تاريخ الحزب، ووضعت أسس رؤية استراتيجية غير مسبوقة لدور “البعث” حزباً حاكماً في سورية في المرحلة القادمة، وهي رؤية متكاملة وواقعية وقابلة للتطبيق تستند إلى قراءة دقيقة لتاريخ الحزب ووجوده في السلطة لعقود، وإلى قراءة استشرافية نيّرة لمستقبل الحزب العقائدي في عالم مركّب من الثنائيات المختلفة، وربما المتصارعة، التي أصبح معها الحديث عن مفاهيم مثل الهوية والانتماء والقومية ضرباً من المثالية المفرطة.
من هذا المنطلق، فإن الحراك داخل مؤسسة الحزب الحاكم ضرورة داخلية، حزبية وسياسية واجتماعية واقتصادية، كما أن تحديد علاقة الحزب بالسلطة على أرض الواقع سيكون من أولويات السياسة التي يرسمها “البعث” للمرحلة القادمة. وهنا تتعدد التساؤلات والخيارات والأفكار: هل سيتراجع دور الحزب في الدولة والمجتمع، أم هل سيقوم الحزب بإعادة صياغة الأيديولوجيا التي قام عليها، أم سينفتح شيئاً فشيئاً على البراغماتية بوصفها اتجاهاً يسوّغ التكيّف مع التحولات بما يتناسب وتحقيق المصلحة العامة للدولة، وفيما إذا كان ممكناً أصلاً أن نوفق بين الأيديولوجيا والتغيير؟
الواقع أن الرفيق الأمين العام كان يثير على الدوام هذه التساؤلات، سواءً في حواراته الغنية التي سبقت الاجتماع الموسّع للجنة المركزية للحزب، مع مجموعة من المفكرين والأكاديميين والاقتصاديين والمحاربين القدماء، أم في أكثر من لقاء أو مناسبة، لذلك جاء تأكيد الرفيق الأسد على أن “تراجع دور الحزب يعني إضعاف الحزب”، وأن عملية التغيير التي بدأت فعلاً في مؤسسة “البعث” بدايةً ليست تراجعاً، بل “إعادة تموضع” لدور الحزب.. ويبدو هذا التعبير هو الصيغة الدقيقة التي تعبّر عن وجود الحزب في السلطة كدور وليس كتدخل، كما أنها الصيغة المثلى التي تحافظ على بنية “البعث” الفكرية وعقيدته من جهة، وتترك من جهة أخرى هامشاً مقنناً للحركة وتغيير سلوك الحزب داخل السلطة، وإعادة ترتيب أولوياته وفقاً للمتغيرات بما يحقق للحزب حضوره الفاعل كحزب جماهيري، وحزب يضع السياسات العامة للدولة، وذلك كله على مبدأ الثابت والمتحول الذي لا غنى لأي حزب أيديولوجي من مقاربته في عالم اليوم طالما أن ذلك في صالح الحزب كمؤسسة وكدور، فـ”البعث” – كما أكد الأمين العام – “لا يزال قوياً فكراً وممارسة”.. ومن هذا المنطلق، فإن عوامل القوة يمكن البناء عليها وفقاً للمنظور السابق الذي لا يخفى فيه البعد الاستراتيجي، فإعادة التموضع تترك مسافة بين الحزب والسلطة تمكّن من توفير بيئة سليمة للمراجعة ووضع سياسات لا تتأثر بالعمل الحكومي التنفيذي وعلاقاته الوظيفية، كما أنها دليل على قدرة الحزب على التكيف والمرونة والدخول في العصرية من غير أن يتخلى عن مبادئه وأهدافه.
من هنا فالأيديولوجيا للحزب منطلق، والبراغماتية للحزب ضرورة، وبتحديد أكثر دقة: البراغماتية الناعمة، وهي مقاربة لا تبدو جديدة، فمعظم المفكرين العرب الأوائل نادوا بالمواءمة بين الأيديولوجيا والبراغماتية، لأنها في صالح الأيديولوجيا حتماً، ومن شأنها أن تزيل كثيراً من اللبس الذي يحيط بالفكرة الأيديولوجية نفسها حول صرامتها المعيارية ومثاليتها وانغلاقها على المتغيرات.
لكن الجديد في هذا السياق قد يكون في تسييس هذين المصطلحين، فبعيداً قليلاً عن الأدبيات، فإن الفرز يبدو حاداً بين مثالية الأيديولوجيا ونفعية البراغماتية، على نحو يماثل ذلك التعارض الذي كان قائماً، قبل عقود، بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي، وهو فرز دأبت الأدبيات والسياسات الغربية على تسويقه لصالح ما سمته “تطرّف الأيديولوجيا وانغلاقها وشموليتها”، في مقابل مفاهيم الحريات والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان..
ويمكن القول، إن الأيديولوجيا لم تكن خالية في الممارسة من النفعية، ولا البراغماتية كانت بمنأى عن المسوغات الأخلاقية، وتبقى المسألة في قدرة الأيديولوجيا على التكيف والمراجعة وتغيير الذهنية، لا الهدف.. من هنا، فالنظام الاقتصادي – كما أكد الرفيق الأسد، كمثال حي على الذهنية المتجدّدة – ليس اشتراكياً بالمطلق، إنه أقرب ما يكون إلى نظام العدالة الاجتماعية الذي يستوعب ويعيد صياغة مفاهيم كثيرة سائدة لوقت طويل في أدبيات الحزب، كالاشتراكية والكادحين والقطاع العام..
في المحصلة، أمام “البعث” اليوم عناوين كبرى تنتظر العمل، وفقاً لخطة مرحلية واقعية تصوغ تنفيذياً مشروع الرفيق الأمين العام للحزب للمرحلة القادمة، وتنطلق من القدرات والإمكانات، ومن كلمة الرفيق الأسد التي تعد دليل عمل متكامل للقائمين على وضع هذه الخطة في القيادة المركزية للحزب ولجنته المركزية، بعد حوار معمّق وموضوعي يأخذ في حسبانه تحديد الأهداف والأولويات والمراحل الزمنية وأدوات تقييم الإنجاز.