آخر الأخبار
الرئيسية » الأخبار المحلية » البقاء مقاومة: من حقّ الداخل السوري أن يروي قصّته والاعتراف بسرديته ليست ترفاً، بل شرطاً أساسياً لبناء مستقبلٍ لا يُقصي أحداً.

البقاء مقاومة: من حقّ الداخل السوري أن يروي قصّته والاعتراف بسرديته ليست ترفاً، بل شرطاً أساسياً لبناء مستقبلٍ لا يُقصي أحداً.

 

انس جوده

انتشرت في السنوات الماضية سرديّة تبسيطية تُقسِّم السوريين إلى فئتين: من بقي في البلاد خاضعٌ للنظام أو عاجزٌ عن الفعل، ومن خرج هو الفاعل الوحيد في الثورة والنضال. ومع سقوط النظام، ترسّخت هذه السرديّة أكثر حتى تحوّلت إلى قانونٍ عرفيّ يمنح الحقّ في الكلام والفعل لمن عاد من الخارج، ويجرّده عمّن بقي في الداخل إلا في حالات رمزية محدودة.

هذه الثنائية تُهين الحقيقة وتظلم ملايين السوريين الذين قرّروا البقاء، لا لأنهم أيّدوا النظام، بل لأنهم رأوا في البقاء ذاته موقفاً ومسؤولية. فهؤلاء — كتّاب وتجار وموظفون وشيوخ وأمهات وآباء — جاهدوا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى للحفاظ على وجودهم، وتربية أبنائهم، ومنع فراغ البلاد من أهلها، إدراكاً منهم أنّ الهروب الجماعي يعني ترك الوطن مشرّعاً لكل من هبّ ودبّ.

منذ الأشهر الأولى للحراك، روّجت المعارضة في الخارج — عبر المجلس الوطني وتكتلاته — لفكرة الخروج بوصفها خطوة “مؤقتة” تمهيداً لعودةٍ قريبة بعد سقوط النظام. كانت الرسائل واضحة: “غادروا الآن، فالتحرير مسألة أشهر.” ومع هذه الدعوات، جرى تصوير البقاء كفعل لا أخلاقي، وكأنّ من ظلّ في البلاد قد اختار الخضوع أو المسايرة. وهكذا، نُزعت الشرعية عن الداخل كفضاء للفعل المدني والسياسي، وأُسبغت البطولة حصراً على الخارج، حتى بات العمل داخل البلاد يُعدّ شبهة.

غير أنّ الوقائع الميدانية رسمت صورةً مختلفة تماماً. ففي ذروة الحرب والانهيار، تشكّلت شبكات تضامن محلية مذهلة: مبادرات إغاثية احتضنت النازحين والوافدين من مناطق الصراع، ورجال دين ومجتمعات مدنية أقاموا جسوراً من التعليم والرعاية والتواصل من دون تمويل خارجي أو تغطية إعلامية، مدرسات ومدرسون عملوا بما يشبه التطوع كالرهبان للحفاظ على سلامة الاجيال ومنع خطاب الكراهية ووأد سرديات الحقد قبل ان تولد. نشأت مساحات مدنية بنت تفاهمات محلية وأطلقت مبادرات ثقافية وتنموية، وبرز داخل بعض مؤسسات الدولة فعلٌ مدني هادئ تقوده جهود فردية ومؤسسية راكمت خطاباً واقعياً للتغيير. مناضلات ومناضلون حقوقيون وثقوا وعملوا تحت الرعب، كتّاب وفنانون وأدباء أصروا على البقاء والإنتاج بكل ما أتيح لهم من أدوات، محافظين على نبض الحياة الثقافية رغم الحصار والانقطاع،فكانوا هم “الباقون” لايأساً ولاعجزاً بل إرادة وعزيمة. نشأت مبادرات حوارية أبقت على قلتها “وميسلونيتها” مساحة ما من الفعل والقول المختلف حتى لايقال أن البلاد ماتت ولم يبق فيها صوت، وحتى بعض الشخصيات والأحزاب التي كانت جزءاً من المعارضة السياسية ومن الائتلاف نفسه، واصلت العمل في الداخل بطرق مختلفة، حافظةً جذوة الفعل المدني من الانطفاء.

هذه الأنشطة لم تكن امتداداً لسياسات النظام، ولا تواطئاً معه، بل شكلاً من المقاومة المدنية الهادئة التي حافظت على شروط الحياة وسط الانهيار، وأثبتت أن الداخل لم يكن فراغاً بل حاضنة صلبة للقيم الاجتماعية والوطنية. ورغم ذلك، تجاهل كثير من المعارضين هذه التجارب لأنها لا تتناسب مع سرديّاتهم أو لأنها تُذكّرهم بفشلهم في بناء نموذج بديل حقيقي. تعامل بعضهم مع الداخل بكل جغرافياته التي ظهرت لاحقاً بعقلية “الوصي الأبيض” الذي يحتكر الحرية في المنفى، بينما يستغلّ جهود العاملين في الداخل لجمع التمويل أو إعداد التقارير والأوراق التحليلية، تاركاً لهم الفتات من الموارد والاعتراف.

الاشتباك مع الواقع من داخل البلاد — بمواجهة السلطات، “والقول والاشتغال” وبناء المبادرات، وتحمل المشاق اليومية — هو الفعل السياسي الأكثر أصالة. فالبقاء ليس ضعفاً، بل شجاعة مدنية ترفض الانقراض، وتتمسك بحق الحياة في المكان نفسه الذي أراد الجميع تركه. وبالمقابل، فإن هناك ممن اختار الرحيل أو أُجبر عليه خاض نضاله الأصيل في ميدان آخر لا يقل شرفاً. النضالان ليسا متناقضين، بل متكاملان، ولا يمكن لأي مشروع وطني أن ينهض ما لم يعترف بشجاعة الداخل كما يعترف بجهد الخارج.

الاعتراف بهذا التعدّد لا يعني تبريراً لسلطةٍ أو تبرئة طرف، بل استعادة التوازن الأخلاقي في السردية الوطنية. فالسوريون الذين بقوا لم يكونوا رهائن ينتظرون التحرير، بل مواطنين صنعوا الحياة وسط الركام. واستعادة أصواتهم وتقدير جهودهم والاعتراف بسرديّتهم ليست ترفاً، بل شرطاً أساسياً لبناء مستقبلٍ لا يُقصي أحداً.

#سوريا_لك_السلام

 

 

 

(أخبار سوريا الوطن2-صفحة الكاتب)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الرئيس السوري أحمد الشرع يزور واشنطن خلال الشهر الجاري لتوقيع اتفاق الانضمام إلى التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية

قال المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم براك السبت إن الرئيس السوري الإنتقالي أحمد الشرع سيتوجّه إلى واشنطن في تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، لتوقيع اتفاق الانضمام ...