في مشهد غير مسبوق في تاريخ العلاقات السورية – الأميركية، يُنتظر أن يصل الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، ليكون أول رئيس سوري يدخل البيت الأبيض.
هذه الزيارة لا تمثل مجرد كسرٍ لقطيعة تاريخية فحسب، بل تعكس إعادة تموضع سوريا على الخريطة السياسية الدولية: من دولة محاصَرة بالعقوبات ومعزولة عن مراكز القرار، إلى طرفٍ يُمنح مقعداً في تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة.
وجاء الإعلان عن الزيارة على لسان المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك، خلال مشاركته في “حوار المنامة”. فقد أوضح أن الشرع سيزور واشنطن في الموعد المحدد، مرجّحاً لقاءً مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكاشفاً أن الانضمام إلى التحالف الدولي ضد “داعش” سيكون في صلب برنامج الزيارة.
وتأتي هذه الخطوة بعد أقل من عام على سقوط النظام السابق، في لحظة سياسية تتقاطع فيها ترتيبات الانتقال الداخلي مع إعادة تعريف العلاقات الخارجية لسوريا.
يكتسب هذا التطور وزنه من خلفية العلاقة بين دمشق وواشنطن؛ فمدى عقود، كانت اللقاءات الرئاسية الكبرى تُعقد خارج العاصمة الأميركية: ريتشارد نيكسون في دمشق عام 1974، وحافظ الأسد مع بيل كلينتون في جنيف عام 2000، فيما ظل البيت الأبيض مغلقاً أمام أي رئيس سوري. لذلك، فإن استقبال الشرع اليوم يُعدّ تصحيحاً لمسار تاريخي طالما أبقى سوريا خارج دائرة اللقاءات الرئاسية المباشرة، ويمنح الخطوة دلالات سياسية مضاعفة تتجاوز الثنائية إلى إعادة تعريف موقع سوريا في النظام الدولي.
ترامب مصافحاً الشرع خلال تواجده في نيويورك في تشرين الأول الماضي. (سانا)
ترامب مصافحاً الشرع خلال تواجده في نيويورك في تشرين الأول الماضي. (سانا)
في واشنطن، بدت الإدارة الأميركية كأنها تهيّئ الأرضية قبل وصول الضيف السوري. فقد تم سحب ترشيح جويل ريبورن لمنصب معاون وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بعد تعثّره في لجنة العلاقات الخارجية، في إشارة إلى رغبة الإدارة في ضخّ وجوه جديدة تتلاءم مع نهج الانفتاح على دمشق، بعد سنوات مثّل فيها ريبورن رمزاً لسياسة العقوبات.
وفي الوقت نفسه، أعلنت وزارة الخارجية دعمها لإلغاء قانون “قيصر” عبر إدراج ذلك في مشروع قانون الدفاع الوطني، مع ترك القرار النهائي للكونغرس، في ما عُدّ علامة على تبدّل المزاج السياسي واستعداد الإدارة لفتح صفحة جديدة مع دمشق.
وفي الداخل السوري، برزت تحركات موازية. فقد نُقل “جيش سوريا الحرة” من تبعية وزارة الدفاع إلى وزارة الداخلية، ورُبط مباشرة بمسرح البادية –التنف، مع تغيير قيادته من سالم العنتري إلى المقدم أحمد التامر، في خطوة تشير إلى إعادة تموضع تهدف إلى تسهيل التنسيق الميداني مع قوات التحالف عبر أذرعٍ تمتلك خبرة سابقة بالتعامل معه.
بالتوازي، دفعت قوات سوريا الديموقراطية (قسد) بمسار اندماج منظَّم داخل الجيش السوري، وقدّمت للتحالف قائمة بنحو سبعين ضابطاً من ذوي خبرة قتال “داعش”، في ما بدا أن الترتيبات الميدانية سبقت الإعلان السياسي.
هذه التطورات، وإن بدت متفرقة، ترسم لوحة توحي أن السياسة لا تعرف المصادفات الكاملة، وأن ما يجري أقرب إلى تحضيرات مدروسة لتهيئة الأرضية قبل لحظة البيت الأبيض.
في خلفية هذه التحركات، يعيش التحالف الدولي نفسه مرحلة انتقالية. فمع استكمال إعادة التموضع في العراق، لم يعد ممكناً الاكتفاء بترتيبات ظرفية داخل سوريا، بل باتت الحاجة إلى إطار قانوني وعملياتي واضح أكثر إلحاحاً.
هنا تكتسب زيارة الشرع معناها العملي: ليست مجرد إعلان انضمام، بل خطوة تمنح الشرعية لوجود قوات التحالف على الأراضي السورية، وتثبّت هندسة جديدة تجعل من سوريا المسرح الأساسي لمهمة مكافحة “داعش” بعدما طويت صفحة العراق.
لكن شرعنة الوجود الأميركي لا تعني أن الطريق سيكون سهلاً. فالتحديات الميدانية قائمة، وفي مقدمها مسألة المقاتلين الأجانب في صفوف الجيش السوري ومدى تقبّلهم عقائدياً وسياسياً فكرة التنسيق مع الولايات المتحدة.
كذلك، يبقى اندماج قوات سوريا الديموقراطية في الجيش السوري وتوزيع الأدوار القيادية ملفاً حساساً، خصوصاً أن “قسد” و”جيش سوريا الحرة” هما الأكثر جاهزية للتنسيق مع التحالف بحكم التسليح والتدريب الأميركيين.
ورغم أن من المبكر الجزم بكيفية تفاعل القوى الإقليمية مع هذا التحول، فإن المؤكد أن الاتفاق المرتقب بين دمشق وواشنطن يحمل في طياته مكاسب وتحديات متبادلة.
بالنسبة لسوريا، يفتح باباً إلى شرعية دولية طالما افتقدتها، ويتيح وصولاً إلى منتجات استخبارية وتقنية متقدمة، فضلاً عن قنوات تجهيز وتدريب لوحدات متخصصة. لكنه في المقابل يفرض التزامات ثقيلة: انضباطاً أكبر في إدارة العمليات، ومساءلة أوضح في حال وقوع أخطاء، وقيوداً مالية وإجرائية تحدّ من هامش المناورة.
أما الولايات المتحدة، فستكسب شريكاً محلياً قادراً على رفع كفاءة ملاحقة “داعش” وتقليص الاحتكاك غير المقصود في الجنوب والبادية، لكنها ستواجه تحدي التعامل مع بنية عسكرية سورية متباينة الولاءات والعقائد.
بهذا المعنى، فإن الاتفاق إذا ما وُقّع سيعيد رسم قواعد اللعبة، لكنه سيضع الطرفين أمام اختبار يومي لتحويل النصوص إلى ممارسة منضبطة وفعّالة.
هكذا، تتقاطع التحضيرات السياسية في واشنطن مع إعادة الهيكلة الميدانية في سوريا لتصبّ جميعها في لحظة واحدة: استقبال رئيس سوري في البيت الأبيض للمرة الأولى.
إنها لحظة تختصر مساراً طويلاً من العزلة والعقوبات، وتحوّل سوريا من موضوعٍ يُناقش في الغرف الخلفية إلى طرفٍ يجلس مباشرة إلى طاولة القرار.
غير أن ما بعد التوقيع سيبقى الاختبار الأهم: هل تتحول الرمزية إلى واقع سياسي وعسكري مستدام؟
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
