|جورج يونان
لم يكن أنطون سعادة ملحداً، وفلسَفَتُهُ المدرحية التي جاءَ بها لم تكن إلا تعبيراً وإيماناً بالتجربة الروحية للإنسان في المنطقة منذ بدايتها وامتدادها على آلاف السنين وانتهاءً بالوحدانية من خلال الأديان السماوية.
فما هي هذه التجربة الروحية لإنسان المشرق السوراقي وما علاقتها بالمدرحية وبالركب الحضاري؟
التجربة الروحية في المشرق السوراقي تجربةٌ واحدة تكرَّرَتْ في الملاحم التي وَصَلتنا، وأصبحت في ما بعد كونيَّة. ففي مقدمة كتابهما «بعل هدّاد»، يقولُ الدكتوران حسني حَدّاد وسليم مجاعص إنَّ «الآلهة السورية القديمة لم تكن آلهة محلِّيّة فحسب، بل آلهة كونيَّة، وإنَّ البعل هدّاد، بطلَ هذه الأساطير… معروفٌ في جميعِ أنحاء الهلال الخصيب والحضارات المجاورة، وإنَّ عبادته قد دامت في العصور الإغريقية والرومانية، وإنَّهُ، بصفته الإله الذي يموت ويعودُ إلى الحياة، قد ترك أثراً لا يُمحى على المسيحية». ويروي لنا المؤرخُ فراس السواح هذه القصة عن أحد زُمَلائه المؤرخين:
«توقّفنا بين خرائب القصر القديم، قرب عمودٍ مربَّعٍ من الجصِّ المصقول، في قمَّتِهِ العلامةُ المقدّسةُ منقوشة: الفأس ذات الحدَّيْن. ضَمَّ الأبُ كَفَّيهِ وحنى ركبتيه لحظةً، ثمَّ حَرَّكَ شَفَتَيهِ وكأنَّهُ يُصَلَّي. استغْرَبْتُهُ وسألتُهُ: ماذا؟ أَتُصَلّي؟ فقال: نعم، يا صديقي الشاب. كُلُّ شعبٍ وكلُّ عصرٍ يمنحَهُ اللهُ قِناعهُ الخاص به. ولكن وراء الأقنعة كلها في كلِّ عصرٍ وفي كلِّ عرقٍ يبقى اللهُ هو ذاته، اللهُ الدائمُ الذي لا يتغيّر. إنَّ لنا الصليب شارة مقدَّسة لنا. وأجدادُكَ الأقدمون، في كريت، كانت لهم الفأس ذاتُ الحدَّين. لكنني أُنحِّي جانباً هذه الرموزَ الفانية، وأتَحسّسُ اللهَ وراءَ الصليبِ ووراء الفأسِ…» (ص 9).
وفي مكان آخر يقولُ السوّاح: «لقد كان همّي، دوماً، التعبير عن وحدة التجربة الروحية للإنسان عبرَ التاريخ»، والدينُ «كَدْحٌ من الإنسان لِتَلَمُّسِ مقاصدِ القدرة الإلهية»، و«إنَّ لقاء الإلهيِّ بالإنسانيِّ قائِمٌ عبر تاريخ الإنسان الروحي» (مغامرة العقل الأولى، ص 8).
يَتَكَلَّمُ عن القدرة الإلهية ومقاصدها من خلال لقاءٍ إلهيٍّ إنسانِيّ، وهذا تلميحٌ، لا بل هو جَزْمٌ، بأنّ تلاحُمَ الروح والمادة قديمٌ، وهو سُنَّة الكون.
يقولُ الأمين إدوار ملحم في دراسته عن المدرحية: «المدرحية هي فلسفةٌ اجتماعية جديدة تتناولُ الإنسانَ بحقيقَتِهِ الاجتماعية، والقيمِ الإنسانيَّة وقضايا الوجودِ الإنسانيِّ وتطورِه». وفي ثنايا دراسته، رَبَطَ المدرحية بالتطورِ الحضاري، مستشهداً بما قاله سعادة في دعوته إلى رفض الإقرار باتّخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة والأعمال الإنسانيَّة. وشدَّدَ على أهميَّةِ التراث الروحي الخصيبي قائلاً: «إلى مقام الآلهة السورية يجبُ على الأدباءِ الواعين أن يَحُجّوا ويسيحوا، فيعودوا من سياحاتهم حاملينَ إلينا أدباً يجعلُنا نكتَشِفُ حقيقة النفسية ضمن قضايا الحياة الكبرى التي تَناولها تفكيرُنا من قبل في أساطيرِنا، التي لها منزِلَةٌ في الفكرِ والشعورِ الإنسانِيَّين، تسمو على كلِّ ما عُرِفَ ويُعْرَفُ من قضايا الفكرِ والشعور».
كيف اكتشفَ هذا النابغة قبل غيره أهميةَ هذه الأساطير؟ يُعرّف إدوارد بارنِت تايلور، عالم الإنسانيات البريطاني، الحضارة بأنها كل مركَّب من عناصر تشمل: المعرفة، والتجربة الروحية، والقيم الأخلاقية، والشرائع، والتقاليد، والفن بأشكاله، والإمكانات أو الكفاءات التي يكتسبها الإنسان كعضو ممارس في المجتمع.
قرأتُ الكثير من الملاحم التي عَبَّرَت عن التجربة الروحية لشعبنا. وكلُّ قراءةٍ كانت تكشفُ لي شيئاً جديداً. وقرأتُ عن المدرحية، مما خَلَّفَهُ سعادة ومن كتابات النخبة من القوميين الذين كتبوا عن هذا الفكر بكثيرٍ من التفاصيل، وقرأتُ عن العقل، ولكنّ السؤالَ الذي شغلني كثيراً هو: ما الذي رَبَطَ هذه الأشياء بعضَها ببعض؟ فبغيرِ الرابط لا يُمكن أن تتكَوَّن الأشياءُ اعتباطاً، فلا وجود لنا ولا كون إذا لم يكن هناك حركةٌ ومُحَرِّكٌ.
هذا الاهتمام لشعبنا بتحولات الطبيعة، انعكس على معتقداته. فالإنسان، هنا، حاول التفاعلَ مع هذه الحركات وتفسيرها، والبحث عن كنهها وإيجاد مسوِّغٍ لها
فما الحكمة في هذا القرار الإلهي الذي فَصَلَ الشيء إلى اثنين؟ وكيف اتّحدتا لاحقاً، وكيفَ عُبِّرَ عنه في تجربتِنا الروحية وانتشارِها في الكون؟ وما علاقتها بالمادة وبالتالي بمفهوم المدرحية؟
أوّلاً، الحكمة الإلهية في الفصلِ والشطرِ والفتقِ هي أنَّ القطبَ الواحدَ لا يمكن أن يتفاعلَ مع نفسه، فالقدرة الإلهية لها عشقٌ لخيرِ الإنسان وتَطَوُّرِهِ. والآية تقولُ: «ثُمَّ خَلَقْناكُم أزواجاً».
1- السماء، وهي القدرة الروحية الكامنة في الكون. وهي في وحدَتِها كانت ساكنة
2- المادة، وهي التربة المادية التي كانت بحالها جامدةً أحاطَتْ بها السماءُ أو القدرة الروحية.
3- الإخصابُ.
4- الخلقُ.
5- الحركةُ.
6- الموتُ.
7- القيامة.
وأثنى على ذلك الفيلسوف الإغريقي «هزيود»، إذ قالَ؛ أصولُ الآلهة ثلاثة: «كاؤُوس» ومعناها الخلاء، أو ما يحيطُ بالأرض، «جايا» الأرض الخصبة، «أيروس» وهو قدرة الإخصاب، فجَمَعَ بين قدرة الخصبِ والخصيب.
أَيُدركُ الناسُ من أين جاءَ تعبيرُ «الهلال الخصيب»؟ قدرةُ الإخصابِ صفةٌ روحية مهمة كمفهومٍ وفعلٍ بعيدٍ عن آلية الاتّصال الجنسي، بل الرغبةُ في الخروجِ من حالة السكونِ، والانطلاقِ في الإنتاج ومشاركة القدرة الكونية في الخلقِ وفي استمرارية الحياة بكل أنواعها: النباتية والحيوانية والإنسانية، ونقيضُها العقم، وفيه اللاخَلْق.
هوميروس، الشاعر الإغريقي الأيّوني الذي هاجر أجداده من الجزر اليونانيّة إلى المشرق، قال:
الطبيعة حيَّةٌ مُريدة، وهي وَلَدَت الجبال والسماء والكواكب. تزَوَّجَت السماء فوَلَدَت أقيانوس والأنهار، وأقيانوس هو المصدر الأوّل للأشياء.
في الإنتاج الروحي البابلي يَرِدُ هذا الشعر في «أسطورة نينورتا والتنين»:
«فانظرِ الآنَ: كُلُّ شيءٍ على الأرضِ/ فَرِحٌ بِحَمدِ نينورتا ملك البلادِ/ أَنْتَجَتِ الحُقُولُ الغِلالَ الوفيرة/ وثَقُلَتْ الكرومُ والبَساتينُ بالأَثْمارِ/ وكُدِّسَ المحصولُ في صوامع وتلال/ لقد أزالُ الربُّ الحدادَ مِنَ البلادِ/ وأَسْعَدَ أَرواحَ الآلهة». فالإنتاجُ عِشقٌ وهو هدفُ القدرة الروحية الكونية ومَسَرَّتُها، وهو ما دعا إليه سعادة: هو عمليةُ خلقٍ وولادة. والإنتاج تزاوجٌ نَظَّمَهُ العقلُ بين الروح والمادة، وفي العقلِ شيءٌ من الألوهة كما قال أفلاطون.
هذا الاهتمام لشعبنا بتحولات الطبيعة، انعكس على معتقداته. فالإنسان، هنا، حاول التفاعلَ مع هذه الحركات وتفسيرها، والبحث عن كنهها وإيجاد مسوِّغٍ لها. وأخيراً حاول التحكُّمَ بأمرها، لتسخيرها في خدمته وفي حمايته. إلّا أنه كثيراً ما اصطدم بعجزه عن التحكُّم بكُلِّ واحدةٍ منها، فعمَدَ إلى الاعتقاد أن وراءَها قوةً روحيةً خالقةً وخارقة، ليس في إمكانه السيطرة عليها، وأعطى هذه القوة صفةً إلهية. وهكذا، فقد كان هناك إله للقمر، وآخرُ للشمس، وآخرُ للمطر. وكذلك نُسِبَ الرعد والبرق والخصب… إلى أَربابٍ أُخَر. ولا يزال شعبنا إلى اليوم يطلق اسمَ «أرض بعل» على الأرضِ التي يرويها المطرُ فقط. وهكذا ظهرت الآلهة المتعددة في تجربته الروحية، إلى أن وصل إلى قناعةٍ بأن هناك قوةً واحدة تتجلّى في حركة الإنسان الحيِّ وفي حركات الطبيعة، هي قوة الله الواحد. فالطبيعةُ هي المُحرِّكُ في الكون، ودوراتُ الفصولِ هي الحَرَكَة. وهكذا ظهرت الرؤية في تجربتِنا الروحية.
الدورةُ الأولى، كانت للفلسفة النظرية.
الثانية، كانت للفلسفة الأخلاقية مع سقراط.
الثالثة، كانت للفلسفة العقلية مع أفلاطون وأرسطو.
أمّا في الدورة الرابعة للفلسفة الإغريقية، فدخل فيها الدين والتصوف والرؤية الروحية مُتأثّرةً بالشرق (يوسف كرم، الفلسفة اليونانية، ص 9). فالدين رؤية، وليسَ طقوساً ونصوصاً، فالنبوة تكلَّمَتْ بالأمثال، والنصوصُ رموزٌ، وما وراء النصوصِ إيحاءٌ وَوَحْيٌ. والرؤية وصفها جبران بالعين الثالثة، ووصفها الحَلّاج في أشعاره.
وتعبيرُ شعبِنا عن تجربته الروحية كانَ بقصصٍ رمزيّة تناقلها الناس من جيل إلى جيل. هذه القصص، التي نسمّيها اليوم بالأساطير، ما كانت إلا نتيجة خيال وتفسيرٍ لحوادث عقلية جرت على مدى آلاف السنين. إلاّ أن معظم علماء الآثار يعتقدون أنها إيحاءات تولَّدَتْ من نظرة الإنسان إلى تغيرات الطبيعة والكون، ولا يمكن فصلها عن بيئتها التي نشأت فيها. هذا الخيال عُبِّرَ عنهُ بأشعار رمزيةٍ، ولكن متناسقة. هذا الشعر، كما الشعر الحديث، كلماتُهُ وجملُهُ لا تعني الظاهر والمكشوف، لكنها تحملُ قوة رمزية إيحائية عميقة، وتنطوي على تأريخٍ لحوادث جرت على مدى الزمن المتسارع، تناقلتها الأجيالُ من واحدٍ إلى آخر.
وأيضاً في مقدمة «مغامرة العقل الأولى» يقولُ السَّوَّاح: «عندما يئسَ الإنسانُ من (تفاسير) السحرِ كانت الأسطورة كلَّ شيءٍ لهُ: كانت تأمُّلاتِه وحكمتَهُ، مَنْطِقَهُ وأسلوبَهُ في المعرفة، أدَاتَهُ الأسبق في التفسيرِ والتعليل، أدَبَهُ وفنَّهُ، شِرعتَهُ وعرفَهُ وقانونَهُ، انعكاساً خارجياً لحقائقِهِ النفسية الداخلية…». ويتابع: «الأسطورة ليست انفعالاً صرفاً، لأنها توسِّطُ الأفكارَ في محاولتها للتعبير عن ذلك الانفعال ومَوضوعيَّتِهِ في الخارج».
كلُّ قدرةٍ في الكون تتحوَّلُ إلى حركة. والحركة سُنَّة الكون. وبغير الحركة ليس من الممكن تصوُّرُ أيِّ نوعٍ من الحياة. والحركة تضمرُ حقيقة، وهي «انقلاب الشيء من حالٍ إلى حال». والمدرحية، بمفهومِها الإخصابيِّ، هي أساس الحركة في الكون.
الأجسام، على اختلافها، مصنوعةٌ من مادةٍ أولى هي محلُّ التغيُّرات. والتغيُّرات هي من ابتكار العقل وصناعته. الفيلسوف السوري طاليس (624-546 ق.م) قال إنَّ الماءَ هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكَوَّنُ منه الأشياء. وكان هذا القول مألوفاً عند الأقدمين:
– وجاءَ في قصَّةٍ مصرِيَّة: «في البدء كان المحيطُ المظلِمُ أو الماء الأول حيثُ كان آتونُ وحدَهُ الإلهَ الأوَّلَ صانعَ الآلهة والبشرِ والأشياءِ».
– عبارة من الشاعر الفيلسوف هوميروس تقول: الأقيانوس هو المصدر الأول للأشياء (القرن التاسع-الثامن قبل الميلاد).
– وجاء في التوراةِ، وهي نقلٌ بتصرف للرؤية البابلية إلى الكون: «في البدءِ، خَلَقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ. وكانت الأرضُ خاويةً خاليةً، وعلى وجهِ الغمرِ ظلامٌ، وروحُ اللهِ يرُفُّ على وجه المياهِ».
– والقرآن يقولُ: وهو الذي خَلَقَ السماوات والأرضَ في ستة أيَّامٍ وكان عرشُهُ على الماءِ (سورة هود).
إذاً، فالماءُ مادةٌ، وأصلٌ للأشياءِ، لكنه ساكنٌ لا يتحوّل إلا إذا اقترن بالقوة الكونية الروحية. والسماء هي القدرة الروحية الساكنة، لا تتحوّل إلا إذا اقترنت بالمادة، وهو ما نسمّيه الإخصاب، بعيداً عن معناه الجنسي، ولكن في نطاقه العلمي، أي التفاعل. وما جَمَعَ بين الروح والمادة هو العشقُ والعقل. والعناصرُ الأربعة المادة والروح والإخصاب (الإنتاج) والعقل هي أساس الفكر الخصيبي وأساس فلسفة سعادة.