الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:
ليس طارئاً على الثقافة عموماً، والعربيّة منها خصوصاً؛ إن جاز التفريق، أن تكون في مواجهة تحدّيات قارّة ومتغيّرة، ذاتيّة وموضوعيّة؛ لكونها- الثقافة- في الروع والمنى والسعي؛ توقاً وعملاً، تطمح إلى التقويم المعنويّ والمادي.. ولم تخلُ الحياة، منذ تشكّل الوعي؛ ولن تخلو، من المشكلات والتناقضات والتبدّلات والمفاجآت والخيبات.. ولم تقف محاولات التجاوز إلى الأفضل، والتخلّص من العثرات ومسبّباتها، والتكيّف الوجدانيّ واليقينيّ مع أسئلتها المزمنة والعصيّة..
وليست حالنا اليوم أفضل ممّا مضى؛ إن لم تكن أسوأ!
فماذا تقول الثقافة للمطبّعين مع المعتدين؛ وفاتحي الأحضان والأسواق والساحات والمدوّنات؛ استسلاماُ وتنازلاً وخذلاناً؟! وكيف تتصرّف أمام ضواغط الظلم والقهر والفقر والتشرّد؛ بفصولها وأشكالها ومفرزاتها… تلك التي يعاني منها المواطن في الوطن العربيّ، وفي المغترب القسريّ أو المختار؛ بصرف النظر عن أيّة نسبة بينهما؟!
وكيف سيكون فعلها وردّ فعلها، مع اضمحلال الانتماءات وضلال الولاءات، ووهن الإحساس بالهويّة والأمان والجدوى؟!
ومن أين للثقافة أن تبادر بجدّ، وتغامر بثقة، وتظهر بما يليق، وكما يفترض؛ وهي عزلاء، ومحاصرة، ومنخورة، ومهملة، وفقيرة، ومنبوذة؟!
الواقع بائس ومؤلم ومحبط؛ مع هيمنة المسلّمات؛ أقداراً أرضيّة وسماويّة؛ سلطة أبديّة، وتسلّطاً فطريّاً بما قلّ أو كثر، من أيّ كان، وفي أيّ مستوى! ومع افتراق القناعات عن المعلَنات من شعارات وعنوانات، والممارسات من تمظهرات وادّعاءات، ومع اقتراف القذف، والنمّ، والتشويش، والنيل من الآخرين والأخريات؛ بينيّاُ وفضائيّاً، وتوزيع الشهادات والألقاب والجوائز، مقابل أثمان مادّيّة وإعلاميّة وإعلانيّة وولائيّة، ومع شراء الأقلام وبدائلها من المشيرات والمحرّرات، وانتهاك الصفحات والنوافذ والمنابر؛ بمباركة أبناء الكار ومشاركتهم؛ حيث نمتدح صولجان السلطان، وهو من دون بطانة صالحة، وقد نكون منها، وقد يريدها على شاكلته؛ تفهم على نيّاته، وتسهر على رغباته؛ ونضغط على الإعجابات الصندوقيّة ضوءاً وورقاً، ونغضّ الرأي عمّن هو جدير؛ لأنّه معقّد وملتزم ومكتفٍ وواثق.. ولا يعجبه العجب، ولا يفهم في الأخذ والردّ، وليس متمثّلاً تاريخاً وأعلاماً؛ (فالرسول قبل الهديّة!)؛ وليس ابن عصره؛ بل أفكاره وقناعاته خشبيّة مسوّسة؛ وقد نتّهمه فوق كلّ هذا، بالإعثار والتشويه والأذيّة للسيرة العليّة، التي لولاه وأمثاله، لكانت الجوزاء ملعب خيلنا، والثريّا بعض متاعنا!
وعلى الإقدام الثقافيّ العربيّ أن يأخذ في حسبانه أنّ أمامه حقّاً عقولاً متحجّرة، وأفكاراً متعفّنة، وذواكر مصطومة، ومناصرات وتحزّبات لمن كانوا، ونحن.. لِمَ لا نكون؟! ومتى؟! وماذا عن آليات التفكير والتشكيك والتحليل والتأويل، والوصول إلى قناعة مريحة وقرار مسوّغ؟! وإذا كنّا نختلف مع الجار القديم، والحضن الأدفأ، والصديق والرفيق والزميل، حين تتطلّب مصالحنا، وتضطرب أطماعنا، وتتضارب قناعاتنا؛ فلمن نتعصب إذاً؟! ومع من نتحالف؟! وعلى من؟! ولم؟!
وماذا نفعل بذاكرتنا المتخمة بالأمثال («اليد التي لا تستطيع عضّها، قبّلها، وادع لها بالكسر!»، الأقارب عقارب»…) ومبجّلاتنا المشرعة والمخفيّة، المترفة بالأقوال والنصوص المتحفّزة لبرهنة الفعل غير البنّاء؛ («النبيّ قبل الهديّة» و»الحجّ يمحو الذنوب كافّة»…)؛ والحروب والمكر والدسائس والخيانات والاغتيالات لأولي الفكر والتفرّد والتساؤل والاعتراض؛ حتّى لخلفاء وعلماء ومتمايزين، وقادة ومناضلين، والإهمال والنكران لمتنوّرين متطلّعين إلى العلى؟! وهناك أقوال وسير وحكايا، تدعم الوثّابين المغامرين، وتحيي ذكر من صمدوا، وسهروا، وضحّوا، ونالوا خلوداً لإنجازاتهم، وأرواحهم.. ولكن!
لقد افتقدنا ظلّ الخيمة، ودفء الأسرة، وإشعاع القدوة، وشعلة التضحية، ومراسم الوداع المحلّى بالأمل، ومشاعر اللهفة وفضائل الحنين، وطقوس اللقاء.. فما الذي يحصّن الكيان، ويحمي القوام، ويميز العلامات الفارقة، ويمنع النخر والاختراق والنفاذ والتسوّس؟!
الزمن يحترق من سرعته، والعمر يتناذر بلا عوض، والناس شراذم وقبائل وماهم بسكارى!
وهناك مشكلاتُ تَلَقّي ما يظهر في العالم من مطبوعات ونظريّات وأفكار، جديرة بالاطّلاع والمتابعة؛ نفتقدها؛ نتيجة ضعف الترجمة، وعدم وجود المشاريع المؤسّساتيّة الحقيقيّة للترجمة، أو عدم كفايتها، وفعاليّتها؛ ومن ثم تصعب مواجهة عمليّات الاختراق، وترجمة ما يراد له أن يترجم ويسوّق ويعمّم ويلقّم؛ من خلال أفراد وهياكل ووسائل إعلام وسواها؛ من أفكار ومواد مشكوك في سلامتها، ونيّات مسوّقيها، وقدرة متلقّيها على تفنيدها وتجنّبها.
وماذا عن الإهمال المقصود للثقافة، من كثير من أصحاب القرار، وغير المقصود من العامّة؛ نتيجة التهميش المتّصل، والحاجات المعيشيّة، التي تستقرّ في الأولويّات الاهتماميّة؛ انشغالاً ذهنيّاً وعقليّاً وسعياً، لا يكاد يكفي، ولا ينتهي!
وأين ومتى التلقّي الفعّال، والفكر النقديّ، وقبول الآخر، والحوار المسؤول، والوعي بالاعتراض، والاستفادة منه، وتحسين شروط الحياة وظروفها؟! وأين النتاج النوعيّ، الذي يشكّل توجّهاً مرضيّاً عنه، أو تيّاراً في مقاربته، وإنجازاً في تأثيره، وسلطانه؟! وأين اختراقاته، ورياداته، ونهضته؟!
ولا ننسى ضعف الإعلام المهتمّ بالثقافة، والمختصّ بها، وضعف الثقافة لدى الإعلاميّين؛ على الرغم من التقدّم في الوسائل الإعلاميّة الممولة في بعض البلدان، من أصحاب رؤوس الأموال، التي لا تزهق أرصدتها بالمجان، أو من دون استثمار واستغلال وغايات.
ومع كلّ هذا، ومع انفراغ الأحياز والمسارات، تنتشر الثقافة البهلوانيّة، التي لا تحطّ على مستقرّ، ولا تغني، أو تسمن من جهل؛ أقصد الكتابات الفضائيّة.
إنّ ارتفاع أسعار الورق، ووسائل الطباعة والنقل والانتقال، جعل الكلفة، التي يتطلّبها إصدار مطبوعة، متعالية، لا يقدر عليها إلّا أصحاب القدرات المادّيّة والمسؤولون؛ هؤلاء الذين يتحكّمون بما يصدر بنسبة كبيرة، فيطبعون لأنفسهم، ولمن يروق لهم؛ وهم أقلّ ثقافة ربّما؛ بينما يتكوّم المثقّف غير القادر على الطباعة، مع مؤلّفاته، ومشروعاته، وأفكاره، في زوايا الموائل المحتشدة ببطون، ترقد على الطوى.. وإذا ما قدّر أن تطبع كتب، قد تستحق؛ فالأعداد هزيلة، وانتقالها متعذّر؛ بسبب القيود التاريخيّة المتجدّدة على الحدود والمنافذ؛ أرضاً وبحراً وسماء؛ ولأنّه مكلف أيضاً، ومن ثمّ سيكون عرضها مبتسراً، والإعلان عنها ضعيفاً؛ وليت طلّابها طوابير، ينتظرون، ويتدافعون؛ كما على نوافذ بيع الخبز، ومنصّات المواد التموينيّة، ومحطّات الوقود، وبوّابات الهجرة والجوازات!
إنّك لتشعر بالمرارة، حين تلتقي أندادك من دول شقيقة؛ باللغة نفسها، وهم ما يزالون على العهد من القضايا، التي تهمّك، وتهمّهم؛ لكنّك تكاد لا تسمع بهم، ولا تتواصل معهم، والإعلام يتنكّر لهم ولمفاهيمهم، وجرأتهم، وبسالتهم، وتضحياتهم؛ لكنّك تفرح لمثل هذا اللقاء، وسرعان ما يدخل نفق الذكرى، وطاحونة التذكّر والحنين؛ لأنّ المناسبات المماثلة، ستتأخّر، وربّما تتبخّر.
إنّ المثقّفين، أو الذين يصنّفون في هذه الخانة، لم يأتوا من السماء؛ وإن كان الحقيقيّ منهم، نعمة إنسانيّة! وهم أبناء تربية وتعليم وتفكير وتقديس وتلقين وتمجيد وتصفيق؛ فهم مثل بقيّة الشرائح الاجتماعيّة؛ فيهم الجادّ، وفيهم المستهتر، ومنهم المأزوم، والمقيّد، والمغلق، ومنهم المنفتح المبادر الوثّاب المغامر، وبين هؤلاء وأولئك، بقيّة الجموع والأفراد، المجيّرة للأقوى، وللأدسم، وهمومهم مختلفة، وتجاربهم متفاوتة، وتيّاراتهم متناحرة، والمنافسة بينهم إلغائيّة تدميريّة، ومَن كانت له الروح والنديّة والمقاربة الموضوعيّة الحسّاسة الشاعرة، يُحاصَر، أو يهمل، حتّى يخيب، ويبتئس! ويا له من واقع أليم، يوزّع شكاياته وولولاته ومواويله المقفرة؛ على الرغم من أنّ المطلوب، أن تكون الثقافة رائدة، ومولّدة مغرّدة؛ مبشّرة بالمنافذ والكوّات والآفاق، والخلاص لجميع الشرائح؛ من دون تفضيل أو انتقائيّة أو استثناء؛ كما يحدث للأسف في الثقافة العربيّة، وفي مختلف المجالات الأخرى؛ السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والرياضيّة والنقابيّة…
ويا لها من ثقافة، ويا لها من تحدّيات!
سيرياهوم نيوز 1-الثورة