نبيه البرجي
أقل ما يقال في وصفنا، ما دمنا على اصرارنا أن نبقى عيدان الثقاب (وكما وصفنا جمال باشا السفاح) المبعثرة. لا ندري اذا كنا في بلد عجيب أم في بلد عجائبي. على صخرة نهر الكلب أسماء كل الغزاة، وقد حفرت على ظهورنا، ليستقر بنا الحال عند ما وصفها صديقنا العميد هشام جابر بـ “ثنائية العصا الأميركية والحقيبة السعودية” التي تتولى سوقنا الآن. لا تصدقوا أننا اخترنا رئيس الجمهورية، والا لأتينا بقاطع طرق، ولا أننا اخترنا رئيس الحكومة، والا كنا أتينا بدمية راقصة…
لكننا البلد الوحيد الذي دحر “اسرائيل”. بالدم أزلنا أي أثر لها من أرضنا. وبالدم، يوم الأحد عرّينا الذئاب من عظامها. راجعوا تفاصيل المشهد. أهل الجنوب حاصروا الدبابات. مواقع التواصل “الاسرائيلية” بين قائل بابادتنا، وسائل “لماذا نحن في جهنم” ؟ لا هوميروس عندنا ليكتب الالياذة، أو الأوديسه اللبنانية، لنكتشف الاّ طريقة للاحتفاء باليوم العظيم الا بالموتوسيكلات المجنونة، وبالرشاشات المجنونة.
أين؟ في بلد ساحر، ونعطيه ذلك الوجه البشع ـ الأكثر بشاعة ـ “هذه منطقتنا وتلك منطقتهم”. بمعنى آخر “هذه جمهوريتنا وتلك جمهوريتهم”. جدران النار بين منطقة ومنطقة. لا يمكن لنا أن نتصور في زمن الثقافات المركبة، والهويات المركبة، وحتى الديانات المركبة، أننا في دولة الأبواب المقفلة والعقول المقفلة والقلوب المقفلة. ليتنا نحاول أن نكسر هذا “التابو” لنكون في بيت بمنازل كثيرة، لا ببيت لكأنه مزرعة للقردة.
هل من حالة أكثر غرابة واثارة للاستغراب، من أن يكون وجود الحالة الشيعية في لبنان رهن بشغلها حقيبة المالية؟ وهل من حالة أكثر غرابة واثارة للاستغراب، من أن توزع “الحقائب السيادية” على الطوائف الأكثر عدداً، لكأننا كلبنانيين لسنا كلنا الأقليات، وكلنا الأكثريات في بلدنا. الحرب أضاءت كل نقاط ضعفنا، بالقابلية الى الانفجار والى الاندثار، حتى اذا وقع الزلزال السوري، وانقلب المشهد الاقليمي رأساً على عقب، بدأت محاولة كسر الضحايا، لتدخل البلاد في حال من الارتجاج. اما أن نسقط (ونجثو في حضرة يهوذا) أو أن نقف على اقدامنا للتعاطي مع الرياح التي تهب من كل حدب وصوب.
الاصلاح أكثر من أن يكون ضرورياً. غداة الحرب العالمية الثانية، كتب البولوني تاديوش روجيفيتش “عبثاً نحاول ترميم هياكلنا العظمية ما دمنا ظلاً للآخرين”. في لبنان، كدنا نبيع أرواحنا الى الشيطان. أكثر من مرة عدنا الى وصف الروائي الأميركي دوغلاس كنيدي بعد زيارته لنا “هناك، لا تدري اذا كنت في الجنة أم في جهنم”. وكنا قد استعدنا هنيهات من سهرة دمشقية ـ وحيث مراقصة الدهر ـ مع محمد الماغوط الذي سألنا وهو يحتسي كأسه الرابعة، “لماذا تحشرون أنفسكم في الكوميديا الالهية”؟
من كان يقصد دانتي حين رأى في الجحيم أناساً “لا يعيشون ولا يموتون”. المطران جورج خضر الذي تليق به القداسة (حتى قداسة الوجه) كتب “لقد كتب على لبنان ألاّ يعيش وألاّ يموت”. ثمة من يراهن على الرئيس جوزف عون اخراجنا من هذه الحال (ما بين الأدغال والأهوال). الأحرى اخراجنا من حالنا، كمستودع للكراهيات، ولكن باي صلاحيات، وبأي دولة، حين لا تعرف الحد الفاصل بين المقامات (والقامات) السياسية والمقامات (والقامات ) الدينية. ما هو الحد الفاصل بين أفلاطون ومكيافيلي، وبين أبي ذر الغفاري والحجاج بن يوسف الثقفي. في عام 2019 عرضت في بيروت مسرحية “يا ويلي النهاية” باسقاط فلسفة اللامعقول للكاتب الايرلندي صمويل بيكيت على الواقع اللبناني، لنكتشف حقاً اننا في جمهورية اللامعقول!
بيكيت بعث برسالة الى صديقه المؤرخ جورج دوثويت قال فيها “لا تعتقد انني أشكو، أشكو من شيء ينتهي أو من أن شيئاً لا يبدأ”. ولكن مثلما كتب “بانتظار غودو”، حيث لا يأتي الخلاص حتى من ثقب الباب (على أمل ألاّ تكون هذه حالنا)، كتب “نهاية اللعبة”. آن للعبة أن تتهي لتبدأ الأعجوبة. ليتها العصا عصا لبنانية لا أميركية. كم هي أنواع العصي التي انهالت على ظهورنا على مدى كل تلك السنوات. ليست سنوات الجمر، كما في كل البلدان التي تتغير، سنوات الرماد…
ليلة البرابرة في الشرق الأوسط. الآن رجل هناك ويدعى دونالد ترامب، ويدعو الى “تطهير” غزة (وغداً الضفة) من أهلها. ايتامار بن غفير يرى أن الأوان آن ليكون الهواء في “أرض الميعاد هواء يهودياً، لنلاحظ مدى التأثير التوراتي (النازي) حتى في تصنيف الهواء. وهنا رجل يعتقد أنه وجد على هذه الأرض من أجل اقامة “أمبرطورية يهوه”.
اذاً، أي مصير ينتظر المنطقة. وليد جنبلاط يتوقع حروباً كثيرة. روبرت ساتلوف يرى أن ترامب ينبغي ألا يكون غبياً الى الحد الذي يعتبر فيه أن باستطاعته اعادة تشكيل العالم بالعصا الاقتصادية، أو بالعصا السياسية فقط…
قلنا عيدان الثقاب المبعثرة بين يدي “اللجنة الخماسية”، أي بين يدي الرئيس الأميركي الذي هو الذي يمارس الآن الوصاية الالهية على المنطقة، وعلينا بطبيعة الحال. مثلما حلت اللجنة مشكلة رئاسة الجمهورية حلت مشكلة رئاسة الحكومة والآن الحكومة.
في هذه الحال، ما جدوى الموتوسيكلات المجنونة؟ كثير من العقل والتعقل الآن. هل المطلوب منا أن نراقص العصا الأميركية؟ أم نعلن العصيان على العصا؟ في الحالتين… ضياع!
(أخبار سوريا الوطن ١-الديار)