| فراس عزيز ديب
بين لبنان وفلسطين المحتلة ما هوَ أعمق من جذورِ التاريخ، من العروبة إلى المواجهة مع العدو الإسرائيلي وصولاً إلى التشرذم بين الفرز الطائفي أو الفصائلي إن جاز التعبير، ربما ما يفرقهما شيء واحد فقط أن أهلنا في فلسطين المحتلة ليسَ بينَهم من يدَّعي صفاء العرق الفينيقي!
لم يكن غريباً أن يصرِّحَ وزيرَ الداخلية اللبنانية بسام مولوي، بأن «من يُراهن على وقوعِ حربٍ أهلية وتقسيم لبنان سيرى أن رهانهُ ليسَ في مكانهِ»، قد يرى البعض بأن كلام المولوي ينطلق من معطيات يمتلكها، لكن هل يحتاج هذا الأمر لمعطيات لكي نكتشفها؟ كلام المولوي أشبه بأولئكَ المحللين الذين يدَّعون عملياً التنبؤ بأي حدث يجري في هذا العالم، لأن ما يجري في لبنان من استفزازات اليوم باتَ من الواضح بأنها ليست بريئة، هناك من يدعو لعودةِ السحل بالسيارات وتعليق المشانق الميدانية باستذكارٍ تافهٍ لما كان يفعلهُ اليمين المسيحي المتطرف خلال الحرب الأهلية دون أن يجرؤ أحد على توقيفهِ أو محاكمته، لكن مهلاً حتى هذا التوصيف يبدو فيهِ الكثير من التجني وإعطاء هؤلاء القتلة مكانة لا يستحقونها كمدافعين عن مسيحيي هذا الشرق، هؤلاء مجردَ إرهابيين، «بني لادن» يتدرؤون بصلبانِ الفتنة لا بصلبان الحق لأن الصليب بما يعنيه من قداسة منهم براء، بذات السياق لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن دعوات لما يسمونه «تقسيم لبنان» ولماذا يقسمونه أساساً وما يعانيهِ أسوأَ ألف مرة من التقسيم بمعناه الجغرافي؟! هذه الدعوات باتت تتلاقى مع استفزازات إعلامية لجهاتٍ بعينها من الضرب بالأعراض وصولاً إلى التحقير بكل شاردة وواردة ببرامج إعلامية تبث من البلد ذاته وترمي سمومها بمسمى «حرية رأي»، لكن بصراحة فإن اللافت هذهِ المرة بأن هذه الدعوات على تنوعها هي خارج السياق الذي اعتدنا عليهِ في لبنان وبمعنى آخر: غالباً ما يكون الاتهام متبادلاً بكل ما يتعلق في لبنان بين طرفٍ يرى بالمملكة العربية السعودية هي الداعم لفوضى منتظرة وبين طرف آخر يرى إيران هي من تدعم هذه الفوضى لأسبابٍ باتت معروفة، حسب قناعاته، لا أعرف إن كنا نستطيع القول مجازاً ربما سنتمنى لو أن إيران والسعودية هما من يدعمان هذه الفوضى تحديداً والمنتظر منها، على الأقل لكل من الدولتين ضوابط وخطوط حمر، لكن بنظرةٍ موضوعية لما يجري فإن كلتا الدولتين براء مما يجري، فكيف ذلك؟
نبدأ من المملكة، دائماً التعاطي مع تحليل وضع المملكة حالياً يحتاج إلى الكثير من الواقعية والتحرر من الأفكار المسبقة، على هذا الأساس تبدو المملكة اليوم بعيدة كل البعد عن هدف كإشعال لبنان أو إدخالهِ في أتون حربٍ أهلية، بل نكاد نجزم أن في عقلِ من يقود المرحلة الحالية للمملكة الكثير من الملفات التي لا يرتقي لبنان فيها لكي يكون من الأولويات، حتى من لا يزال يتحدث عن تبني المملكة «دعم السنة في لبنان» عليه أن يتذكر بأن المملكة ذات نفسها ألغَت وأقصت كل ماله علاقة بالانغلاق وكل ما قد يشكل واجهة مذهبية، هناك بعض القوانين التي صدرت نحتاج في بعض الدول ربما لعقودٍ لنفعلها، الكثير لم يُحسن قراءة قيام المملكة العربية السعودية بإقصاء سعد الحريري عن الواجهة الحكومية، بل ربما قد نستطيع القول إن لبنان كان عبئاً لم تعد تريد المملكة تحمله، على هذا الأساس لا مصلحة سعودية أبداً بإشعال نيرانٍ في بلدٍ لم يعد من أولوياتها كما يهلوس البعض.
ننتقل إلى إيران، وبواقعية تامة لا تبدو طهران ومن يؤيدها في لبنان يضغطون نحو هذا الاتجاه، بل على العكس مازال حزب اللـه يشكِّل صمامَ أمانٍ بما يتعلق بضبطِ الشارع، ولو كان الهدف فعلياً حرباً أهلية أو طائفية، لكان أمام الحزب ومن يدعمه عشرات التبريرات لبدئها أو استخدامها ذريعة، ثم إن الحزب يدرك تماماً أن الحرب الأهلية حتى لو كسبها وسيطر على كل لبنان فلن يستطيع أن يحكمه فلماذا يغامر بمقامرة خاسرة؟ ثم لا أعرف حقيقةً كيف يمكن الربط بين هروب إيران من شبحِ التظاهرات والاحتجاجات بإشعالِ حربٍ طائفية في لبنان هل هذه نكتة؟ إذن أين تكمن المشكلة؟
ببساطة، تكمن المشكلة عند اللبنانيين أنفسهم، قلناها أكثر من مرة إن لبنان لم يعُد أولوية لأحد لأن الوظيفة الجغرافية للبنان بدأت تتلاشى، لبنان لم يعد مهماً لكي يكون خاصرة رخوة لسورية ما دام العدو يضرب في العمق السوري تحت الحزام، لبنان لم يعد بوابة للخوف من حربٍ كبرى لكثير من الأسباب لن نأتي على ذكرها لكونها صارت معروفة أهمها انتهاء ملف الترسيم، أما الاتكال على الدعم الخارجي فهو ضياع آخر، فعلى سبيل المثال وعشية يوم الإضراب الكبير الذي دعت إليه النقابات العمالية في فرنسا يوم الخميس الماضي خرجت صحيفة «شارلي إيبدو» بغلافٍ بعنوان: هل هي العودة لعام 1968؟!
أرادت الصحيفة أن تذكر الفرنسيين والعالم بما حدثَ خلال الاحتجاجات الطلابية الأهم بتاريخ الجمهورية الخامسة التي أطاحت برمزها وأول رئيسٍ فيها شارل ديغول، هذا التذكير لم يأتِ عن عبث فما تعيشه الدولة الثانية من ناحية الاقتصاد والأولى من حيث النفوذ السياسي في دول الاتحاد الأوروبي سيجعل انكفاءها نحو الداخل أشد وضوحاً، أما تطلعها نحو الملفات الخارجية فسيكون كنوعٍ من الهروب لا أكثر، هذا ما حدث سابقاً عندما سارع الرئيس إيمانويل ماكرون لزيارة لبنان بُعيد انفجار بيروت يومها كانت زيارته مثار سخريةٍ حتى من الفرنسيين أنفسهم، هذا المثال ربما على اللبنانيين قراءته بتمعن تحديداً أولئكَ الذين يعيشون وهمَ أن دولاً كبرى لا تنام قبل الاطمئنان على الوضع السياسي في لبنان، أو أن دولاً كبرى أدخلت في مناهجها الجامعية «إعلان بعبدا» أو «مبادئ ثورة الأرز»، على بعض السياسيين أن يدركوا بأنهم ليسوا محور الكون وليسوا محور الأحداث ولم يعودوا حتى صندوق رسائل، لكن ما علاقة كل ذلك بفلسطين المحتلة؟
منذُ أن بدأت التظاهرات تتصاعد في فلسطين المحتلة من إسرائيليين يرفضونَ ما تقوم بهِ الحكومة الأكثر تطرفاً بتاريخ الكيان الصهيوني، عادَ الحديث أوروبياً عن موانعِ قيام دولة واحدة للفلسطينيين والإسرائيليين بمعزل عن التسمية، هؤلاء ربما بُسطاء لدرجةٍ لم يُدركوا فيها بعد أن وجودَ هذا الكيان هو لدورٍ وظيفي معين وليس بهدف خلق دولة جديدة، بذات السياق عادت فكرة الإشادة بوجودِ إسرائيليين يرفضون العنف ماذا لو كانت دولة واحدة لشعبين؟ لكن في الحقيقة فإن خروج هؤلاء ليسَ رفضاً للعنف المتمثل بالحكومة المتطرفة بقدر ما هو رفض لوضعهم في وجهِ المدفع عبرَ تسخين الجبهة الداخلية المتمثل بانهيارِ السلطة الفلسطينية كما يدفع لحصولهِ ما يسمى وزير الأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية إيتمار بن غفير، أكثر من ذلك هناك من بات يسأل داخلياً ما سر ارتفاع عدد اليهود من ذوي البشرة السوداء المهاجرين باتجاه فلسطين المحتلة؟ هل هم فعلياً يهود بالولادة أم ادعوا ذلك بهدف الهروب من جحيم الصحراء الإفريقية، أين باقي يهود العالم لماذا لم يعودوا إلى أرض الميعاد؟
هنا تبدو نقطة التلاقي بين إشعال الوضع في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، يريد قادة الكيان النجاة بالحكومة عبرَ إنجازٍ يجب أن يكون تطبيقاً عملياً لما يؤمنون بهِ من حدود إسرائيل وإلا فسيعني إخفاق تجربتهم الإقصاء إلى الأبد فماذا ينتظرنا؟
خلالَ حديثٍ في مؤتمر دافوس قالَ وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان: إن المملكة لن تُطبع ما لم يتم حل القضية الفلسطينية، هذا الكلام يقطع الشك باليقين بأن ما يطمح إليه الكيان من مواقف عربية أكثر قوة من ناحية تبرير انتفاء المقاومة ضده باتت منتهية، أما فرضية وجود عدو مشترك هما حزب اللـه وإيران، فلم تعد قابلة للصلاحية في قادمات الأيام، دون أن ننسى بأن حل الدولتين لن يواجه أي اعتراض وسيعني حكماً حلاً لباقي الملفات العالقة، من هنا علينا أن نفهم بأن التسخين الداخلي بين لبنان وفلسطين المحتلة ليسَ بريئاً، البريء الوحيد منها هو من كان متهماً بها، فتشوا فقط عن الكيان وكيف يسعى للهروب نحو الأمام، لكن إياكم والتقليل من إمكانيات العدو، شاهدوا عقوداً من الاستهانة بالعدو أين أوصلتنا!
سيرياهوم نيوز 1-الوطن