تتصاعد حالة الاشتباك الفلسطينية في القدس والضفة الغربية المحتلّتَين، وسط محاولات إسرائيلية لحصْرها، ومنع اندلاع مواجهة واسعة، لن تظلّ فصائل المقاومة في قطاع غزة بعيدة منها. على أن الإجراءات الإسرائيلية، والمتمثّلة في التضييق على الفلسطينيين في القدس وملاحقة المقاومين في الضفة، لا تفتأ تؤتي نتائج عسكية، سواءً في ارتفاع مستوى التحدّي في منطقة باب العامود خصوصاً، أو في تطوّر عمليات إطلاق النار وتوسّعها في اتّجاه مستوطنات العدو وجنوده
بيت لحم | تتصاعد المواجهات في منطقة باب العَمود في مدينة القدس المحتلّة، تدريجياً، منذ بداية رمضان، فيما يتزايد قمع الشرطة الإسرائيلية للمصلّين، بعد أن كانت قوات الاحتلال تتجنّب التصعيد، وتحرص على عدم التصادم مع الفلسطينيين، خشية من مواجهة جديدة مع قطاع غزة، قد تمتدّ لتشمل أكثر من جبهة. وفي الوقت نفسه، تتوسّع رقعة الاشتباك في الضفة الغربية، لتصل جنوب بيت لحم، حيث حفلت ليلة الرابع من رمضان بعمليات إطلاق نار بلغ عددها ستّاً خلال ثلاث ساعات، واستهدفت مستوطنات جديدة، ما يؤشّر إلى استمرار حالة الاشتباك وتصاعدها. وبحسب تسلسل الأحداث، فقد أقامت شرطة العدو، في الليلة الأولى من رمضان، حواجز حديدية لتقييد مساحة جلوس الفلسطينيين وحركتهم، ومنعتهم من التواجد في أماكن محدّدة. وفي الليلة الثانية، نُصب مركز شرطة متنقّل، فيما في فجر اليوم الثاني، نصبت شرطة الاحتلال كشّافات إضاءة جديدة فوق نقطة المراقبة التي وضعتها عام 2017، ليقتحم وزير خارجية العدو، يائير لابيد، في عصر اليوم الثاني أيضاً، باب العَمود، وسط حراسة مشدَّدة رافقت جولته داخل البلدة القديمة. وكانت بدأت المواجهة هذا العام باستنفار إسرائيلي مكثّف في محيط باب العَمود، بسبب الخشية من تنفيذ عمليات جديدة، إضافة إلى الرغبة الإسرائيلية في تهدئة الأوضاع. لكن ما حدث كان معاكساً تماماً، إذ إن الانتشار العسكري المكثّف ولّد احتقاناً كبيراً، خصوصاً أن عناصر شرطة العدو حاولوا التحكّم بحركة الفلسطينيين في باب العَمود، وسعوا لإبعادهم يومياً عن أماكن محدّدة، ومنعهم من المرور منها. ولعلّ تلك الاستفزازات الإسرائيلية هي التي دفعت إلى المواجهة الجارية اليوم، منذ بداية رمضان.
وبحسب مصادر محلّية تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن «شرطة العدو قمعت الفلسطينيين في أوّل يومَين من رمضان، لكنّ القمع كان يقتصر على الدفع ومحاولات التفريق وبعض الاعتقالات، ربّما لأنّها متخوّفة من تفاقم الأمور والتصعيد، كما حدث في إرهاصات معركة سيف القدس، بينما شهد اليوم الثالث إطلاق الرصاص المطّاطي وقنابل الغاز والصوت تجاه الفلسطينيين، إضافة إلى سحل بعضهم والاعتداء عليهم بالهراوات». ومنذ بداية رمضان وحتى الآن، تشهد منطقة باب العَمود اعتقالات بحق الفلسطينيين كلّ ليلة، فيما تتصاعد المواجهات الميدانية تدريجياً. ولم يفهم كثيرون، وربّما منهم قادة إسرائيليون، أن المسألة في تلك المنطقة تتعلّق أساساً بالصراع القائم على المدينة، وبأن الفلسطيني يؤدي طقساً رمضانياً عند جلوسه على درجات باب العَمود كلّ عام، ومن دون ساحة الباب يكون رمضان ناقصاً عند المقدسيين، الذي يرفضون التحكّم الإسرائيلي بهم. أمّا من جانب العدو، الخائف من التصعيد، فلن يتركه الفلسطينيون حتى لو صمَت، لأن المقدسيّ ينظر إلى الوضع على أنه معركة على السيادة في المدينة المقدسة؛ فبينما يلاحق جنود العدو علماً فلسطينياً مرفوعاً، يهتف العشرات لمحمد الضيف ولفلسطين. «إن الفلسطينيين مبدعون في الجَكَر، يعاندون الشرطة ولا يأبهون لها، هذه مدينتهم وليست للغريب»، يقول شاب فلسطيني اعتاد على الجلوس في باب العَمود. مضيفاً أن «الشباب المقدسي أصبح أكثر قوّة بعد معركة سيف القدس، ويعرفون أن خلْفهم مقاومة لن تتركهم، وستتدخّل حتماً في نهاية المطاف عندما يتجاوز العدو الخطوط الحمراء ويتمادى في إجرامه».
مستوطنات الضفة تحت النار
في ليلة الرابع من رمضان، أطلق مقاوم النار تجاه قوّة من جيش العدو قرب قرية فقوعة في جنين. كما شهدت الليلة نفسها إطلاق نار استهدف موقعاً للجيش على قمّة جبل جرزيم، المطلّ على مدينة نابلس. أمّا الحدثان الأكثر قوة، واللذان ركّزت عليهما وسائل الإعلام الإسرائيلية، فكانا في مستوطنتَي «إفرات» و«أفني حيفتس»، في الليلة الرابعة أيضاً. ويقول مصدر مطّلع، لـ«الأخبار»، إن «إفرات، الجاثمة على أراضي الفلسطينيين جنوب بيت لحم، تعرّضت لثلاث عمليات إطلاق نار متتالية، إذ يتمركز المقاومون ويطلقون الرصاص من أطراف مخيم الدهيشة»، واصفاً ذلك بـ«المشاهد التي لم تعشها بيت لحم سوى في الانتفاضة الثانية، عند إمطار مستوطنة (جيلو) بالرصاص، ومستوطنة (إفرات) لم تشهد مثل هكذا عمليات سابقاً، لأن المستوطنة لم تكن متوسّعة كما الآن، فاليوم تمتدّ ليصل جزء منها إلى قرب مخيم الدهيشة، وهو ما جعلها هدفاً سهلاً أخيراً». وبحسب وسائل إعلام إسرائيلية، فإن قوات الاحتلال طلبت من المستوطنين في «إفرات» التزام منازلهم بعد استمرار سماع إطلاق النار. كذلك، شهدت «أفني حيفتس»، الواقعة جنوب طولكرم، تطوّراً دراماتيكياً مفاجئاً، تَمثّل في ترجُّل مقاوم من مركبة عند مدخلها، وإطلاقه نحو 30 رصاصة، ثمّ نجاحه في الانسحاب من المكان، حيث أكدت إذاعة جيش العدو أن 25 رصاصة أصابت منازل المستوطنة.
يعيش العدو حالة من التخبّط والارتباك بعد عملية «بني براك» التي نفّذها الشهيد ضياء حمارشة
وهذه هي المرّة الأولى، منذ انتهاء انتفاضة الأقصى، التي يُطلق فيها مقاومون النار بشكل مباشر على مستوطنتَي «إفرات» و«أفني حيفتس»، علماً أن عملية إطلاق نار استهدفت مركبة إسرائيلية على طريق قرب «أفني حيفتس» عام 2015، من دون أن تُوقع إصابات. ويقول موقع «والا» العبري إن جيش العدو ينفّذ عمليات بحث عن خلايا المقاومة التي نفّذت عمليات إطلاق النار تجاه قوات من الجيش وعدّة مستوطنات في الضفة. ويضيف أن «المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية لديها خشية كبيرة من احتمالية إقدام هذه الخلايا على تنفيذ عمليات إطلاق نار أخرى خلال الأيام المقبلة». وفي إحصائية أصدرها «مركز معلومات فلسطين» (معطى)، تساوى عدد قتلى الاحتلال منذ بداية العام الجاري، مع مجموع القتلى خلال الربع الأول من أعوام 2019، و2020، و2021، بينما بلغ عدد عمليات إطلاق النار 51 عملية خلال الربع الأول من عام 2018، تضاعفت بمقدار 132 عملية خلال الربع الأول من عام 2022.
وتُرجّح مصادر مطّلعة، في حديث إلى «الأخبار»، أن تستمرّ المواجهات في منطقة باب العَمود خلال الأيام المقبلة، وأن تشتدّ حملات القمع والاعتقال الإسرائيلية. كما تتوقّع تكثيف أوامر الاعتقال الإداري والحبس المنزلي بحقّ عدد كبير من الشبّان الناشطين في القدس ومنطقة باب العَمود خاصة، حيث سيبدو الوضع أشبه بـ«فرض منع تجوّل على هؤلاء»، في محاولة لإخماد بذور المواجهة وتهدئة الوضع. أمّا في الضفة، فإن جنين، طوباس، نابلس، رام الله، البيرة وقلقيلية، هي أكثر المناطق الفلسطينية التي دخلت موجة إطلاق النار والاشتباك في الأشهر القليلة الماضية. لكن منذ شهر، وحتى انضمام طولكرم وبيت لحم إلى المشهد، والعمليات المتتالية في ليلة الرابع من رمضان، بدا أن ثمّة توسُّعاً في رقعة الاشتباك، مع امتدادها إلى مناطق جديدة كانت هادئة نسبياً منذ نحو 20 عاماً، وهو ما يشير إلى احتمالية عالية لاستمرار تمدّدها على طول الضفة وعرضها.
ويعيش العدو حالة من التخبّط والارتباك بعد عملية «بني براك» التي نفّذها الشهيد ضياء حمارشة؛ إذ كشفت التحقيقات عن اجتيازه الجدار الفاصل من إحدى ثغراته، نحو الأراضي المحتلّة عام 1948. ومن أجل سدّ هذه الثغرات، أعدّت سلطات الاحتلال خطّة استراتيجية، تضمّنت في المرحلة الأولى انتشاراً مكثّفاً للجنود على كلّ الفتحات، إضافة إلى نصب خيام للقوات في المكان، وكمائن مموّهة خَفيّة، وتركيب كاميرات إضافية. على أن المعضلة التي يواجهها العدو حالياً، تتلخّص في أنه غضّ النظر عن عشرات الثغرات لسنين طويلة كي يمرّ منها العمال غير الحاصلين على تصريح إسرائيلي (عمال التهريب) في إطار «التسهيلات الاقتصادية والمعيشية» الإسرائيلية، لتنفيس ضغط الفلسطينيين والحيلولة دون انفجار بسبب تفشّي البطالة والضغوط الاقتصادية في الضفة. لكن الآن، يقمع جيش الاحتلال العمال في أحيان كثيرة عند هذه الفتحات، وهو بذلك يُخرّب كلّ ما حاول أن يبنيه من ورائها؛ فتشديد الإغلاق، عدا كونه يكلّف نحو مليار شيكل بحسب مصادر إسرائيلية، إلّا أنه يزيد نسبة البطالة، ويضغط الفلسطينيين معيشياً، وبالتالي ستزداد المخاوف الإسرائيلية من تفجّر الأوضاع، إمّا بوجه العدو أو بوجه السلطة الفلسطينية، وكلا الأمرين يبدوان سيّئَين للإسرائيليين.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار