يعتبر التضخم النقدي سواء كان ( تضخم طلب أو تكلفة أو مستورد) وبكل أنواعه (منخفض– متوسط– مرتفع–جامح) أحد الأمراض الاقتصادية التي يواجهها الاقتصاد العالمي ومنه سورية، وإذا كان أغلب الاقتصاديين السوريين متفقين بشكل تقريبي على تعريف التضخم وتداعياته وأسبابه ولا سيما بعد الارتفاع الكبير في الأسعار لأغلب السلع والخدمات، إلا أنه يوجد تباين في الرؤى حول الكيفية التي سنخرج بها من براثن التضخم، وبدأنا نسمع عن اقتصاديين سوريين بضرورة التوجه للاقتداء ببعض الدول مثل ( تركيا – فنزويلا – البرازيل – بولونيا…إلخ ) باللجوء لزيادة قيمة الليرة السورية من خلال حذف أصفار من الوحدات النقدية المتعامل بها، وكمثال عملي أن تصبح 5000 ل.س/ 500/ ل.س…الخ ؟!
لهذه الآلية إيجابياتها وسلبياتها، فإيجابياتها تتجسد في تقليل حجم الكتلة النقدية المحمولة وتسهيل العمليات المالية وخاصة للصفقات الكبيرة وزيادة الامن والأمان في التعاملات ولا سيما بعد أن اعتمد البعض على وزن النقود لمعرفة قيمتها بدلاً من عدها ولا سيما للفئات الصغيرة بما فيها /1000و2000/ ليرة، ولكن من سلبياتها ضرورة طباعة نقود جديدة (نيو ليرة) وتراجع الثقة بليرتنا التي هي من مرتكزات استقرارنا الاقتصادي والسياسي وانعكاس ذلك على أغلب المؤشرات الاقتصادية مثل (توزيع الدخل والثروة والاكتناز بجانبيه، الادخار والاستثمار، والطلب والعرض الكلي على السلع والخدمات وأسعار الصرف ….إلخ).
مع احترامنا لكل الآراء نرى أن هذه الالية تعتمد على معالجة التضخم من نتائجه وليس من أسبابه، وبرأينا تتطلب معالجة التضخم قبل كل شيء معرفة الأسباب ومعالجتها والربط بين السبب والنتيجة والعلة والمعلول، حيث لا توجد مشكلة اقتصادية إلا وتحمل في طياتها بذور حلها، وهنا نقترح الآلية التالية للخروج من دائرة التضخم وتحديد أسبابه التي تتوسع يوماً بعد يوم لأسباب ذاتية وخارجية ناجمة عن الإرهاب الاقتصادي من عقوبات وحصار اقتصاديين جائرين مفروضين من طرف واحد ومخالفين للشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة وخاصة المادتين /39و41/ من الفصل السابع من الميثاق، ومعالجة التضخم هي مسؤولة الجميع ولكن يبقى للسياسة النقدية (المصرف المركزي) الدور الأكبر في ذلك باعتباره الجهة المسؤلية عن ذلك، والمعالجة ليست سهلة ولكنها ليست مستحيلة في ظل الظروف الحالية فنحن في ظرف غير عادي نحتاج إلى إجراءات غير عادية، والتضخم ظاهرة مركبة تؤثر على المجتمع بأكمله وكما يقال: إن التضخم كالملاريا يجعل الحياة كريهة، وجوهر أسباب التضخم يبدأ من العلاقة بين معدلي نمو الأجور والانتاجية وفق المعادلة التالية:
معدل التضخم =[معدل نمو الاجور / تقسيم معدل نمو الإنتاجية] %
ومن هنا تبدأ المعالجة العملية أي من القطاع الإنتاجي بترسيخ ثقافة العمل والإنتاج وخلق القيم المضافة والربح والربحية، وكمثال من واقع اقتصادنا السوري حالياً، وبدراسة العلاقة بين المؤشرات الاقتصادية التالية، وهي على سبيل المثال وليس الحصر (الاستثمار وعجز الموازنة السنوية وتناسب الكتلة النقدية مع حجم الناتج المحلي الإجمالي GDP ومعدل البطالة والاعالة …إلخ)، حيث إن مواجهة التضخم تعني زيادة القوة الشرائية لليرة السورية أمام السلع والخدمات بما فيها سعر الصرف الذي يعبر عن عدد الليرات السورية اللازمة مبادلتها للحصول على عملة أخرى.
ونقترح هنا البحث لإيجاد (المزيج النقدي المالي الأمثل) الذي يربط بشكل مباشر بين (الكتلة النقدية والسلعية)، وطرف الخيط يبدأ من زيادة الإنتاجية الصناعية والمردودية الزراعية وكفاءة النفقات في قطاع الخدمات المخدّم للإنتاج، هذا يعني إيجاد سلع جديدة وانسيابها إلى السوق الداخلية وتقليل الفجوة التسويقية بين (الطلب الكلي والعرض الإجمالي) من وعلى السلع والخدمات، وهذا يؤدي إلى تخفيض الأسعار أي زيادة القوة الشرائية لليرتنا، كما يتيح لنا هذا زيادة الصادرات والاحلال محل المستوردات، وبالتالي زيادة الحصيلة من القطع الأجنبي ما يؤدي إلى زيادة الاحتياطيات النقدية وبالتالي زيادة قدرة المصرف المركزي بالتدخل في سوق العملات بشكل إيجابي وبما يخدم ليرتنا السورية، كما أن تفعيل الإنتاج يؤدي إلى إيجاد فرص عمل ما يقلل من معدل البطالة وبالتالي معدل الاعالة (عدد الأشخاص الذين يعيلهم الشخص الواحد) ويؤدي إلى تحسين مستوى المعيشة في سورية وهو في سورية مرتفع ويحسب وفق المعادلة التالية:
معدل الاعالة = (عدد أصحاب الدخول الحقيقية / تقسيم عدد السكان)%
ومع زيادة الدخول المقابلة للسلع تتراجع معدلات التضخم، وتزداد مرونة البنك المركزي بسحب السيولة من السوق عن طريق اختيار (سعر فائدة) مناسب وسعر الفائدة: هو سعر إقراض واقتراض النقود، وعندها تقوم البنوك وبتوجيه من البنك المركزي ( بنك البنوك) بتحويل الإيداعات النقدية عبر قنوات استثمارية لقطاعات رائدة من مشاريع صغيرة
ومتوسطة تولدّ قيم مضافة وفرص عمل جديدة، وهذا يساهم في تحسين رؤوس المربع الاقتصادي الذهبي [ زيادة معدل النمو وقيمة الناتج الإجمالي وتراجع معدل البطالة والتضخم].
وانسجاماً مع ما ذكرناه ومع تفعيل المؤشرات الاقتصادية الأخرى ومشاركة كل القطاعات الاقتصادية في العملية التنموية بالتوجه نحو التشغيل الكامل، على المستوى الوطني لزيادة قيمة الناتج الإجمالي GDP واستغلال الموارد المتاحة وتحويلها إلى إيرادات نقدية، وعلى إيقاع ذلك يتحقق التناسب بين الكتلتين النقدية والسلعية، وكما يؤكد قانون ( أوكين OKUN ) أن كل تراجع في قيمة الناتج الإجمالي المتوقع بنسبة/ 2%/ يؤدي إلى زيادة معدل البطالة بنسبة /1%/ ، وهذا يتطلب استغلال كل م2 من الأرض الزراعية والطاقة الإنتاجية المتاحتين على قاعدة زيادة الكفاءة الاقتصادية والاستغلال الأمثل لمواردنا وتعظيم سلسلة القيم المضافة التي تصنع في المراحل الأخيرة من العملية الإنتاجية وتحويل المزايا النسبية إلى مزايا تنافسية في السوقين الداخلية والخارجية من خلال تحسين الكفاءة الإنتاجية التي تعبر عن النسبة الكائنة بين المخرجات والمدخلات الإنتاجية، أي تحقيق الأهداف المنشودة بأقل تكلفة ممكنة، وهذا يذكرنا بقصة (جحا وجاره) حيث يروى أن جار جحا كان يريد أن يصنع ختماً مخصصاً لمكتبته التي يعمل بها، وكان يمتلك بما يعادل /2000/ ليرة سورية، فذهب إلى الصانع وقال له أريد أن تصنع لي ختماً فكم يكلف ؟ فقال الصانع كل تصنيع لحرف يكلف /1000/ ليرة سورية، وعاد صاحبنا كئيباً لأن النقود التي يملكها لا تكفي لتصنيع ختم باسمه، ومر على جحا وروى له قصته، فقال جحا هيا بنا إلى الصانع، وعند وصولهما سأل جحا الصانع أريد أن تصنع لي ختماً باسمي فقال الصانع كل حرف يكلف /1000/ ليرة فقال جحا موافق، فسأل الصانع جحا مااسمك فقال له (خس) وبدأ الصانع بصناعة الختم، وعندما وصل إلى النقطة قال له جحا ضعها في آخر الاسم ، فوضعها الصانع وقال له اسمك ( حسن ) واستطاع جحا أن يحصل على ما يريد وكذلك الصانع من خلال إدارة استخدام النقود، فالمشكلة ليست في حذف الأصفار رغم أهميتها بل في آلية الإنتاج وإدارته.
سيرياهوم نيوز 2_تشرين