إدمان التعليقات هو أحد أبرز معالم هذا العصر الرقمي، حيث تتحول الدردشات والتفاعلات إلى ممارسات يومية تنسج خيوط الحياة الاجتماعية والأقل اجتماعية معاً، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف أصبحنا مدمنين على هذه الثقافة الرقمية، و هل تخبرنا تعليقاتنا عن هويتنا وشخصياتنا الحقيقية في زمن تتقلص فيه المسافات وتزداد المساحات الافتراضية؟
وسيم طالب جامعي يقول: أنجذب بشدة لقراءة التعليقات في البوستات التي تعجبني، ربما كان الفضول وراء هذا الشغف، لكن عندما إرسل تعليقي، يكون مبنياً على رأيي الشخصي وليس وفقاً لما أقرؤه من التعليقات الأخرى.
وراء كل نقرة “فضول”
الدكتورة مريم الحاج عثمان الاختصاصية في التربية والإرشاد الأسري، ترى أن الأسباب النفسية التي تدفع بعض الأشخاص للغوص في عالم التعليقات بشكل مفرط عبر وسائل التواصل، تكمن في فضولهم غير العادي، حيث يسعون بشغف لاكتشاف ما قد يقوله الآخرون حول موضوع معين، وكأنهم مدفوعون بدافع قوي يتملكهم، هذا الفضول هو في الواقع شعور بالانتماء، حيث يخال لهم أنه يجب عليهم المشاركة والتفاعل في التعليقات، ما يزيد من شهوتهم لقراءة المزيد، أو رغبتهم في التحقق من صحة المعلومات التي صادفوها، ما يدفعهم لمراجعة الآراء المختلفة في التعليقات، وهذا بدوره يزيد من شغفهم في الاطلاع على المزيد، لافتة إلى أنّ الشعور بالوحدة قد يكون سبباً آخر، حيث يلجؤون إلى هذا الفضاء الافتراضي لتعويض الفجوة الاجتماعية، وكأنهم يتظاهرون بالتواصل مع الآخرين، حتى وإن كان ذلك مجرد تفاعل سطحي خفي.
مفتاح العالم
كما أكدت الحاج عثمان، أنّ البعض يتجه إلى قراءة التعليقات ليس فقط لتأكيد أفكارهم السابقة، بل ليجمعوا معلومات تؤكد صحة آرائهم مقارنة بآراء الغير، فهؤلاء يميلون إلى تعزيز قناعاتهم بمرور الوقت، أو الخوف من فقدان أخبار مثيرة أو معلومات مهمة، ما يؤجج لديهم نار الفضول، فتجدهم متشبثين بشدة بالتعليقات كأنها مفتاح العالم.
هرمون السعادة
وهنا تحدثنا إيمان (٣٥ عاماً)، مبينة أن رغبتها تكمن بقراءة التعليقات، وعند مشاهدتها مقطع فيديو غير واضح، تقوم بقراءة التعليقات لتوضيح ما هو مبهم، سواءً في زمان أو مكان أو تفاصيل الحدث، فتجد أن التعليقات تعطي فكرة أوسع وأكمل للفيديو، أما في حال مشاهدة فيديو كوميدي، فقراءة التعليقات الفكاهية تزيد هرمون السعادة لديها.
من جهتها تضيف مروه (٢٧ عاماً)، أن بصمة التعليق تحدد لمحة مختصرة عن شخصية الأشخاص وما يجول في أفكارهم.
تأثير إدمان التعليقات
وعن تأثير إدمان قراءة التعليقات على الصحة النفسية، وحسب رأي الحاح عثمان، فمن المؤكد أنّ انغماس الأشخاص في هذا الفعل، يؤدي إلى العديد من الآثار السلبية، إذ قد يشعر هؤلاء بالقلق والتوتر بسبب التعليقات السلبية والجدلية التي تلاحقهم، ما يجعلهم محاصرين بمشاعر سلبية وأفكار مرهقة، وهنا نجد أنّ غوغاء النقاشات السلبية لا تؤدي إلّا إلى ميلهم نحو الاكتئاب، وفي نهاية المطاف لن يحصلوا على تفاعل اجتماعي ملموس، بل سيعززون شعورهم باليأس والعزلة.
تآكل احترام الذات
كما يمكن أن تؤدي هذه العادة غير الصحية إلى تآكل احترام الذات، وفق رأي الحاج عثمان، ما يزرع داخلهم مشاعر الفشل والعجز، ومع مرور الوقت، يصبح من الصعب عليهم الانفصال عن هذا الإدمان حتى لو كانت التعليقات سلبية، ما يشتت انتباههم عن أهم مهامهم في الحياة، سواء داخل العمل أو في العلاقات الشخصية، وفي خضم هذه الفوضى، قد يعانون أيضاً من مشاكل النوم؛ فالأفكار السلبية تلقي بظلالها و تستمر بالتردد على عقولهم، فتظهر أنماط ذهنية سلبية تترسخ لديهم، ما يؤدي إلى الأرق، لافتة إلى أن التعليقات السلبية قد تجعلهم أهدافاً للتنمر الإلكتروني، و يخلق لهم مشاكل نفسية تطفو على السطح.
علامات
أما فيما يتعلق بالعلامات التي تشير إلى إدمان قراءة التعليقات، بينت الحاج عثمان، أن بعض المتابعين يقضون وقتاً طويلاً في قراءة التعليقات، متجاهلين أنشطتهم اليومية، وهذا ينعكس سلباً على التزاماتهم، كما قد يشعر بالانزعاج والقلق عندما يحرم من ترف قراءة التعليقات ليوم واحد، ما يبرز حجم الإدمان، زيادة على ذلك، قد يتخلى الشخص عن الأنشطة الممتعة التي كانت تسعده، ويكاد يصبح معزولاً عن عمله وعلاقاته الشخصية بسبب انغماسه في هذا العالم الرقمي، ولتجنب التأثير السلوك لهذا السلوك، يحتاج الشخص إلى تقييم مقدار الوقت الذي يهدر في قراءة التعليقات، ومدى تأثير ذلك على مسؤولياته اليومية.
التركيز على الإيجابيات
وحسب منظور الحاج عثمان، من المهم التركيز على الإيجابية في حياتنا، وإحاطة أنفسنا بأشخاص صحيين وصادقين والبحث عن محتوى إيجابي عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بعيداً عن الاستسلام لجاذبية التعليقات السلبية، وهنا تبين أنه من أجل تعزيز تقدير الذات بعيداً عن آراء الآخرين، يمكن اتباع مجموعة من الأساليب الفعالة مثل: كتابة قائمة بالنجاحات اليومية حتى وإن كانت بسيطة، والتي تعزيز الشعور بالإنجاز و الإيجابية، تجربة أنشطة جديدة: يفتح آفاقاً لتعلم مهارات جديدة، ما يعزز من شعور الشخص بكفاءته وقدرته على التطور، الابتعاد عن الأشخاص السلبيين الذين يؤثرون سلباً على مشاعرنا وتقديرنا لذاتنا، ممارسة التأمل والتفكير الهادئ: والتي تساعد في تعزيز الوعي الذاتي وتقبل النفس، التفكير الإيجابي من خلال التركيز على الإيجابيات وأن نخلق بيئة تحفزنا على النمو الشخصي، وضع أهداف قصيرة وطويلة الأجل و رسم خطة عمل ملموسة للاحتفال بأي إنجاز، مهما كان صغيراً، و تقليل قيمة آراء الآخرين السلبية يعزز القدرة على اتخاذ القرارات بناءً على ما نراه مناسباً.
تضارب ثقافي
وعن سؤالنا عن سبب التناقض بين التعليقات حسب المجتمعات، تكشف الحاج عثمان، أن سبب التباين يعود إلى عدد من العوامل الثقافية والاجتماعية، ولاسيما أن وجهات النظر الثقافية “مختلفة”، إذ إن المجتمعات العربية قد تكون أكثر تحفظاً وتحمل قيوداً اجتماعية أكثر صرامة، بالمقابل الثقافات الغربية تعزز التصرفات غير التقليدية وتعزز ردود الأفعال الفردية، أضف أن الضغط الاجتماع له دوره في المجتمعات العربية، فالانتقادات تجاه تصرفات تعدّ غير ملائمة، خصوصاً فيما يتعلق بحركات مثل الرقص، كما أن الإعلام الأوروبي غالباً ما يركز على التنوع والتفرد، بينما الإعلام العربي قد يتأثر بالعادات والتقاليد، ما يسهم في صياغة ردود الفعل السلبية، كما أن الثقافات الأوروبية، لا تنظر إلى السن كعائق أمام الفرح والتعبير، بينما في مجتمعنا، قد يعدّ رقص المرأة المسنة تحدياً للتقاليد، من جهة أخرى المجتمعات العربية خصوصاً في بعض المناطق، قد تكون أكثر تحفظاً تجاه النساء، وخاصة المسنات، ما يؤدي إلى أن ينظر إلى رقصهن كفعل يتعارض مع القيم التقليدية.
بالتالي؛ هذه التناقضات تسلط الضوء على كيفية اختلاف المجتمعات في تقدير الفرح والتعبير الشخصي، ما يؤثر بوضوح على ردود الأفعال تجاه الظواهر الثقافية.
سيرياهوم نيوز 2_تشرين