د. صبحي غندور
تتميّز السياسة الخارجية الأميركية في مجال العلاقات مع الدول والجماعات بالحرص على اعتماد التوازن بين “الأضداد” في البلد نفسه، أو في الإقليم الجغرافي المشترك. ففي هذا الأسلوب، يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من حاجة كلّ طرف لدعمٍ أميركي ضدّ الآخر، ومن التنافس الذي يحصل بين الأطراف المتناقضة على خدمة المصالح الأميركية. أيضاً، فإنّ هذه السياسة تسمح لواشنطن بتهديد طرفٍ ما أو الضغط عليه من خلال الطرف المحلّي أو الإقليمي الآخر دون الحاجة لتورّط أميركي مباشر.
ولعلّ أمثلة كثيرة توضح هذه السياسة الأميركية التي يسير عليها صانعو القرار الأميركي لعقود طويلة، بغضِّ النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو عن الشخص الحاكم في “البيت الأبيض”. فواشنطن مثلاً أقامت علاقاتٍ جيّدة جدّاً مع الصين في فترة “الحرب الباردة” لتعزيز الانقسام في “المعسكر الشيوعي” بين موسكو وبكين، ثمّ احتفظت بهذه العلاقات الخاصّة مع الصين رغم سقوط الاتحاد السوفييتي، ورغم التقارب الكبير الذي أقامه النظام الجديد في موسكو مع واشنطن والغرب في مطلع حقبة التسعينات. بل إنّ العلاقة الأميركية الخاصّة مع الصين في السابق لم تكن على حساب علاقات واشنطن مع اليابان، رغم الصراع التاريخي بين اليابان والصين. أمّا في العقد الثاني من القرن الحالي فقد وضعت واشنطن الصين وروسيا في خانة المنافسين الأساسيين للقطب الأميركي ويجري التعامل معهما الآن بنظرة سلبية واحدة.
وهكذا نجد سياسة أميركية في شرق آسيا مع عدّة دول متباينة، ومتصارعة أحياناً، لكن كلّها تنشد علاقة خاصّة جيّدة مع واشنطن، بما فيها دول اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين وفيتنام وغيرها.
أيضاً، تظهر هذه السياسة الأميركية المستفيدة من العلاقات مع “الأضداد” في النهج الأميركي مع باكستان والهند، حيث لم تكن العلاقة التاريخية القويّة بين واشنطن وإسلام آباد مانعاً لتطوير وتحسين العلاقات الأميركية/الهندية. فلم تستبدل واشنطن العلاقة مع باكستان بعلاقات جيدة أقامتها مع الهند، بل يمكن القول إنّ واشنطن غضّت النّظر عن تمكّن البلدين من بناء السلاح النووي لتحقيق توازن تديره واشنطن. وربّما سنشهد قريباً حالة مشابهة من “التوازنات الأميركية” في منطقة الخليج العربي ومحيطها، بحيث تعزّز واشنطن علاقاتها العسكرية والأمنية مع بعض دول “مجلس التعاون” في الوقت نفسه الذي تسعى فيه واشنطن الآن للعودة للإتفاق الدولي مع إيران، إضافةً إلى الحرض الأميركي على استمرار تركيا في عضوية “حلف الناتو”، رغم الخلافات الأميركية مع سياسات أردوغان، ورغم ما بين دول هذا الإقليم الجغرافي (الخليج العربي والشرق الأوسط) من تباينات وصراعات أحياناً.
وعلى صعيد الدول العربية، نجد واشنطن تمارس سياسة “التوازن بين الأضداد” داخل بعض هذه الدول حتّى في مسائل محلّية داخلية. فواشنطن تدعم “إستقلالية” إقليم كردستان في العراق، كما هي تؤكد دعمها لرئيس الحكومة العراقية وللسلطة المركزية في بغداد، وهي تتواصل أيضاً مع جماعات سياسية محلية في وسط العراق وغربه. فالأطراف العراقية المتباينة فيما بينها، تتفق على الحاجة لترتيب علاقات جيدة مع الولايات المتحدة! عِلماً أنّ واشنطن هي من أطلقت، بعد غزوها للعراق عام 2003، تعبير “المثلّث السنّي/الشيعي/الكردي”، وهي التي فكّكت الجيش العراقي الواحد، وهي التي أقامت حدود إقليم كردستان منذ العام 1991 تحت مبرّر “منطقة الحظر الجوي”، وهي التي دعا فيها الرئيس جو بايدن، حينما كان عضواً في مجلس الشيوخ، إلى تقسيم العراق، وهذا ما طالب به أيضاً في الماضي بعض أعضاء الكونغرس الأميركي، وكان لعددٍ منهم علاقاتٌ خاصّة جداً مع إسرائيل و”اللوبي الصهيوني” في أميركا!.
مثالٌ آخر عاشته السياسة الأميركية في مصر، قبل التغيير الذي حدث في تموز/يوليو 2013، حيث كانت السياسة الأميركية هناك تعتمد على “ثلاثيّة” مصرية متباينة لكن تربط أطرافها جميعاً علاقاتٌ خاصّة مع واشنطن. فواشنطن التي شجّعت على حكم “الأخوان المسلمين” في مصر، خلال فترة الوزيرة هيلاري كلينتون وسفيرتها في القاهرة، وأقامت علاقات جيدة مع الرئيس السابق محمد مرسي، كانت أيضاً تحتفظ بعلاقات قويّة جدّاً مع المؤسسة العسكرية المصرية، منذ توقيع “معاهدات كامب ديفيد”، وكانت أيضاً تدعم بشكلٍ واسع “التيّار الليبرالي” في مصر ومؤسّسات مدنية عديدة مناهضة لحكم “الأخوان” ولأيِّ دورٍ سياسي للمؤسّسة العسكرية. فقد كان من مصلحة واشنطن الحرص على التوازن في العلاقة مع هذه “الثلاثيّة” المصرية، واستخدام بعضها كأداة ضغط ضدّ الآخر في حال الاختلاف مع واشنطن، إضافةً إلى أنّ واقعاً سياسياً مصرياً قائماً على التناقضات لن يسمح بقيام دولة مصرية مركزية، ولا بالقدرة على التحرّر من شروط “المعاهدات” مع إسرائيل والولايات المتحدة، ولا طبعاً بالقدرة على لعب دورٍ إقليمي لا ترضى عنه واشنطن.
ولعلّ هذا ما يفسّر سبب غضب إدارة باراك أوباما من التغيير الذي حصل في مصر بعد مظاهرات 30 يونيو 2013، والذي أدّى عملياً إلى سقوط “لعبة الثلاثية” وتمركز الحكم والنشاط السياسي عملياً بيد المؤسسة العسكرية، مما أنهى أيَّ دورٍ سياسي لجماعة “الأخوان المسلمين”، وهمّش أصوات الجماعات الأخرى في المجتمع.
ونجد سياسة “التوازن بين الأضداد” تمارسها واشنطن أيضاً في كيفيّة التعامل مع ما يحدث في ليبيا، حيث تقيم الولايات المتحدة علاقاتٍ متوازنة مع الأطراف الليبية المتصارعة الآن، ومع القوى الإقليمية الداعمة لها. وتراهن على استمرار العلاقات المتوازنة مع القوى الليبية المتباينة في حال جرى التوصّل لتسوية سياسة للأزمة الليبية.
ذلك كلّه يحدث وواشنطن هي الآن طرَفٌ مباشر ومتدخّل في معظم القضايا والأزمات العربية الراهنة. فهي التي أوقفت، منذ مطلع التسعينات في القرن الماضي، مرجعية الأمم المتحدة للصراع العربي/الإسرائيلي، وجعلت من نفسها المرجعية والحَكَم بمصير القضية الفلسطينية، في حين أنّها طرفٌ مباشر داعم لإسرائيل في هذا الصراع، كما كانت هي “واشنطن” أيضاً عرّاب الاتفاقات والمعاهدات التي حصلت بين مصر والأردن ومنظمّة التحرير مع إسرائيل.
“واشنطن” كانت قوةً عسكرية محتلّة في العراق، وهي الآن طرف مباشر في تقرير مصيره الأمني والسياسي من خلال المواجهة التي حدثت مع “داعش” والتي سببت بإعادة الوجود العسكري الأميركي للعراق وبنشر قواعد عسكرية أميركية في سوريا حيث مارست الإدارات الأميركية أيضاً فيها سياسة “التوازن بين الأضداد” فشملت العلاقات والتفاهمات الأميركية القوى الكردية المسلّحة وجماعات متصارعة معها من “المعارضة” إضافة لتركيا المنتشرة قواتها على الحدود مع سوريا!.
لقد جرى في العقدين الماضيين سعيٌ محمومٌ لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، بهدف إعادة معظم أوطانها إلى حال الوصاية والهيمنة الأجنبية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن العشرين. ويترافق مع مشاريع التدويل الجارية حالياً، وجود “واقع حال” إسرائيلي يقوم على سعيٍ متواصل منذ حقبة الخمسينات لدعم وجود “دويلات” طائفية وإثنية في المنطقة العربية. وكلّ ذلك يحصل مع استخدام جماعات ذات أسماء دينية أسلوب العنف المسلّح الذي يستبيح كلّ شيء ويؤدي إلى مزيدٍ من الفتن والتفتّت والصراعات الداخلية.
إنّ التدخل الدولي والإقليمي في شؤون البلاد العربية يتواصل في ظلّ مناخ تزداد فيه الطروحات الانقسامية داخل المجتمعات الوطنية العربية، فما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ لا عن خطايا حكومات وأنظمة فقط، بل هو مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويّتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي، وفي التماشي مع رغبات “الخارج” وشروطه للدعم والمساندة!.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
(سيرياهوم نيوز-رأي اليوم ٨-٤-٢٠٢١)