القاهرة – “رأي اليوم”- محمود القيعي:
أثارت «مذبحة أبو حزام»، التي وقعت بمركز نجع حمادي في محافظة قنا، وأودت بحياة 10 أشخاص وإصابة 7 آخرين القلق من جديد خوفا من عودة ظاهرة الثأر التي اشتهرت في صعيد مصر.
الحادثة الأليمة حدثت إثر خصومة ثأرية شهدت استخدام أسلحة نارية، بين عائلتين بقرية أبو حزام، وكان من بين القتلى والمصابين عدد من الأشخاص ليسوا طرفا في تلك الخصومة الثأرية.
كثيرون دقوا ناقوس الخطر خوفا من عودة ظاهرة الثأر بقوة، محذرين من كارثة فاجعة.
حكم الأخذ بالثأر
من جهتها أكدت دار الإفتاء المصرية رفضها مفهوم الثأر في الصعيد، حيث أكدت أمانة الفتوى- في منشور عبر موقعها الإلكتروني- حرص الإسلام على حماية الحياة الإنسانية، وجعل صيانتها من حيث هي مَقْصِدًا شرعيًّا، وحَرَّم الاعتداء عليها، وتَوَعَّد المعتديَ بالوعيد الشديد؛ فالإنسان بنيان الله تعالى في الأرض، مَلعونٌ مَن هَدَمه.
وجاء في الفتوى: «أما في الأحكام الدنيوية: رتَّب الشرع الشريف عقوبةً حَدِّيَّة صارمة على القتل العمد، وهي القصاص من القاتل جزاءً وفاقًا لما اقترفته يداه، والعمد: هو قصد الفعل العدوان، وقصد عَين الشخص، والفعل بما يقتل قطعًا أو غالبًا، فإن عفا أهل القتيل أو أحدهم عن القاتل سقط القصاص عنه ووجبت عليه الدية؛ قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: 178]، فأرسى الشرعُ بهذه العقوبة الردعَ المجتمعي اللازم؛ فبتطبيق القصاص تحقن الدماء، كما راعى الشرع أيضًا بعقوبة القصاص نفسية أهل المقتول التي تفور بالألم والرغبة في مكافأة دم صاحبهم، ولم يفرض عليهم التسامح فرضًا، بل جعله خيارًا مُرَغَّبًا فيه، يثاب فاعله ويؤجر.
وتابعت الدار: «نَبَّه الشارع أيضًا مع ذلك على وجوب مراعاة العدل عند استيفاء القصاص، والعدل هنا يشمل أمرين، الأول: ألا يُتَجاوَز إلى تعذيب القاتل قبل إنفاذ الحَدِّ فيه أو التمثيل بجسده بعده، والثاني: ألا يُتَجاوَز إلى قتل من لا ذنب له ممن له علاقة بالقاتل بقرابة ونحوها».
وذكّرت الدار بقول الإمام البيضاوي في تفسيره (3/ 254، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا﴾ غير مستوجب للقتل ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ﴾ للذي يلي أمره بعد وفاته، وهو الوارث ﴿سُلْطَانًا﴾ تسلطًا بالمؤاخذة بمقتضى القتل على من عليه، أو بالقصاص على القاتل؛ فإن قوله تعالى: ﴿مَظْلُومًا﴾ يدل على أن القتل عمد عدوان؛ فإن الخطأ لا يسمى ظلمًا. ﴿فَلَا يُسْرِفْ﴾ أي: القاتل. ﴿فِي الْقَتْلِ﴾ بأن يقتل من لا يستحق قتله؛ فإن العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك، أو الولي بالمثلة، أو قتل غير القاتل] ».
وتابعت الدار أنّ هذا المعنى المستفاد من الآية الكريمة تجريمٌ لصورة من صور الثأر الذي يُنتَقَم فيه لدم القتيل بقتل أحد من قرابة القاتل، وهذه عادة من عادات الجاهلية التي جاء الإسلام الحنيف ليقضي عليها؛ فكان إذا قُتِل منهم قتيلٌ لم يكتفوا بقتل قاتله، بل تَعَدَّوْا إلى أهله وعشيرته، حتى تبقى بينهم الحروب الطاحنة من أجل ثأرهم، وكانوا يُعْرَفُون بالعصبية القبلية.
وأردفت دار الافتاء: «لا شك أنّ الأخذ بالثأر على هذا الوجه فيه اعتداء عظيم على النفوس المعصومة، وأخذها بجريرة غيرها، فالمقتول يُقتَل وليس له ذنب يُعاقَب عليه ولا جريرةٌ يُؤخَذُ بها، فإذا كان أهل المقتول قد تضرروا بقتل قريبهم، وأصابتهم المرارة ولحقتهم الأحزان فلا يعطيهم هذا مبررًا مقبولًا في أن يُداوُوا مراراتهم بإلحاق الضرر بالأبرياء الذين لا ذنب لهم ولا جريرة فيما وقع للمقتول. كما أنّ هناك مفسدةً أخرى في ممارسة عادة الثأر بشكل عام، وهي التعدي والافتيات على ولي الأمر في شيء من صلاحياته التي رتبها له الشرع وفوضه فيها دون غيره، وهو الاختصاص باستيفاء العقوبات. والافتيات على ولي الأمر بوجه عام ممنوعٌ محرمٌ؛ لأنه تَعَدٍّ على حقه بمزاحمته فيما هو له، هذا من جهة، وتَعَدٍّ على إرادة الأمة التي أنابت حاكمها عنها في تدبير شئونها من جهة أخرى».
وزادت الدار، أنّ «إقامة العقوبات في العصر الحاضر في ظل دولة المؤسسات إنما تناط بجهة محددة تُسنَدُ إليها، وهي السلطة التنفيذية، وهذه الجهة لا تستطيع أن تُنَفِّذَ عقوبةً ما إلا بعد أن تَبُتَّ فيها الجهة المختصة بالسلطة القضائية، فتقوم بالنظر في الواقعة المعينة، وتستوفي فيها الأدلة والقرائن، وتستنطق الشهود، وتنظر في الملابسات والظروف المحيطة، ثم تقضي بعقوبة مخصوصة فيها، وهذه الجهة بدورها لا تستقل بعقوبة لم يُنَصَّ عليها في القانون المعمول به في البلاد، والذي تقوم على اختياره وصياغته الجهة المختصة بالسلطة التشريعية. وكل جهة من هذه الجهات الثلاث تُعَدُّ هي ولي الأمر فيما أقيمت فيه».
واختتمت دار الافتاء مؤكدة أن قيام آحاد الناس الآن بتطبيق العقوبات بأنفسهم فيه افتئاتٌ على أصحاب هذه السلطات الثلاث؛ فقد يُعاقَب المجرمُ بغير ما قُرِّر له من العقوبة في القانون، وقبل ذلك فإنه يُدان من هؤلاء المُفْتَاتِينَ بلا تحقيق أو دفاع، ثم إن إنزال العقاب يحصل بعد ذلك من غير ذي اختصاص، وفي بعض الأحوال يُنزَلُ العقاب بالأبرياء الذين لا ذنب لهم، وكلُّ هذا في النهاية يقود المجتمع إلى الفوضى وإلى الخلل في نظامه العام. وعليه فإن ما تريد أن تفعله كل عائلة من عائلتي الرجلين المقتولين من أخذها بثأر فقيدها من أحد أقارب المتهم بالقتل جرم جسيم ومُحَرَّم عظيم؛ لما فيه من تسويغ الفوضى والجور والاعتداء على الأنفس المعصومة بغير حق شرعي.
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم