غسان كامل ونوس
تتوجّه بوصلة الثقافة؛ بطبيعتيها المادّيّة والمعنويّة، وعبر مساراتها المحسوسة واللّا واعية، إلى الحياة بكينونتها ومكوّناتها؛ مقوّمة ومشذّبة، ومهذِّبة؛ وهو توجّه أصيل، لا تحتاج إلى من يدلّها عليه؛ وقد لا تحتاج إلى موجّه؛ بل إلى ميسّر للعبور وتجاوز العثرات والحواجز في الدروب والأحياز، والعقول والحواس. وإذا ما جاء التوجيه من صلب العمل الثقافيّ النبيل ونيّته وغايته، وأسهم في إغنائه وتنويعه وانتشاره؛ فلا بأس، ولا خوف؛ أمّا حين يجيّر “المثقّفون” الثقافة إلى مآخذ موارِبة ومداهِنة ومساومة ومحاصِصة؛ بعيداً عن التنوير والسموّ والارتقاء، ويخوّضون في دروبها؛ طلباً لمقاصد ذاتيّة، حسب مصالحهم الخاصّة؛ لا المصلحة العامّة؛ فهنا الطامّة الكبرى. وقد ينطلي الأمر على آخرين متلقّين ومستهدفين؛ لانبهارهم بهالة الثقافة، وأصداء القائمين بها وعليها، وثقتهم؛ لنبل طويّتهم، وحسن نيّتهم، بأرباب الثقافة؛ فينجح المسوّقون بلفت الانتباه إليهم، وجذب الاهتمام إلى لجّتهم، والانشغال بضوضائهم، ويروّجون بضاعتهم، وتتغلغل نتاجات أفعالهم في الحنايا والأكناف، وتصبح من العسير معالجة ما يترتّب على ذلك من مفاهيم وقناعات وانفعالات.
ومن الممارسات المشهودة، التي قد لا تخفى على المتابع الثقافيّ اليقظ، ما يلجأ إليه بعض المسؤولين في قطاع الثقافة؛ من إعلاء شأن من لا يستحقّ؛ لنفوذ أو طائلة أو سلطة أو جاه، فيقدّمونهم إلى الجمهور أيّما تقديم؛ يقرؤون لهم، وينشرون، ويكتبون عنهم؛ على أمل ردّ الجميل المأمول والمنتظر؛ بأشكال شتّى، وأثمان مقدّرة؛ كما يمكن أن تدعى أسماء بعينها إلى مناسبات كبرى؛ لأنّ لهؤلاء قيمة دعائيّة وإعلانيّة، ولديهم إمكانيّات غير ثقافيّة؛ كما يمتلكون قابليّة الإقدام على دعوات مقابلة لداعيهم إلى مناسبات مماثلة في أحيازهم! ومن الكتبة من كرّس نفسه لملاحقة كتاب هنا وهناك وهنالك؛ والتقريظ به، والتفنّن في تحميله ما يدهش، وتأويله إلى ما لا يحتمل، وتسييده على أقرانه، وتأييده في كلّ ما جاء فيه؛ لغاية تطال كاتبه أو ناشره أو الجهة، التي تبنّته؛ بصرف النظر عن جودة حقيقيّة في تكوينه، وإضافة، يعتدّ بها في طرحه ومقولاته، وأسئلة يستثيرها، أو أجوبة يقدّمها، أو يؤدّي إليها، أو فتح يرتئيه، ورؤيا يوحي بها أو إليها… إنّ في أيّ من هذه الأفعال خيانة لمعنى الثقافة، وتشويهاً لرسالتها السامية، وتضليلاً للقرّاء والمتابعين، وظلماً لمن يستحقّ، وبقي في الظلّ والموات، ربّما، مهملاً مغيّباً مجهولاً. إنّ من أخطر ما تشهده المؤسّسات الثقافيّة، والمناسبات الثقافيّة، والمنافذ الثقافيّة بأنواعها وأشكالها؛ ظواهر من أمثال أن: أكتب عنك؛ لتكتب عنّي، وأدعوك؛ لتدعوني، وأنشر لك؛ لتدعمني، وربّما تدفع لي، وتدفع بي إلى مواقع ومنافع…
صحيح أنّ من غير الممكن للثقافة أن تسود من دون حوامل، وأهمّها الحوامل البشريّة؛ من لحم ودم ومشاعر ورغبات ونزوات؛ لكنّ العكارة، التي قد تلحق بثوب الثقافة، تظهر بوضوح؛ نظراً لمظهر الثقافة الناصع في أذهاننا، وإذا كانت الثقافة وسيلة ومادّة وحالة لعلاج التشوّه الداخليّ والخارجيّ في النفس الإنسانيّة؛ فكم ستكون الخسارة كارثيّة، إذا ما أصابها المرض، وأضحت تحتاج إلى علاج، أو أصبحت هي الداء أو حاملته؟! إنّ فساد الثقافة كفساد الملح، الذي يحفظ الأشياء من البلى؛ أو يفترض أن يكون كذلك.
وتختلف أوجه التوجيه وأشكاله وأدواته ومكوّناته؛ فهناك إشارات أو دلائل خاطئة إلى مسالك مودية إلى المهالك، وجهات موبوءة، تعيث فيها الطفيليّات والجراثيم والفيروسات؛ وهناك دعوات مبطّنة، وكلام حقّ، يراد به باطل. ومن الأدوات ما هو مزيّف وهشّ ومثلّم ومعوجّ؛ على الرغم من أنّه مزيّن ومغرِ، ومن المواد ما هو مسموم ومستنفد الفوائد والطاقة؛ بالرغم من صوره الزاهية ورائحته الفوّاحة، وما يبدو عليه من طزاجة ونكهة وجاذبيّة، وما يرافقه من جلبة وضجّة.
وقد يبدو كلّ هذا في السلوك الخاصّ والعام للمثقّفين؛ على اختلاف مواقعهم ومسؤوليّاتهم وفعاليّاتهم؛ لكنّه قد يظهر أكثر في المناسبات الصغرى والكبرى، التي تتكرّر حوليّاً أو موسميّاً، ويكون لها أصحابها المعروفون أو المفرزون، الدائمون أو المتبدّلون، المعدّون والداعون والعارضون والمعلنون والمسوّقون، وهناك فرسانها المنتظِرون والمنتظَرون، ومحيو نشاطاتها، وزوّارها المنظورون، الذين لهم في كلّ عرس قرص، وفي كلّ ساح جولة، ولهم مريدوهم، وإعلامهم، وروافعهم، التي تجعل الآخرين أقزاماً، لا يلتفت إليهم إلّا من يستطيع أن يتحرّر من كلّ هذه الأضواء والقيود، وكلّ أولئك الدعاة والجباة للصور والتصريحات والمقابلات…
الثقافة أجمل من ذلك وأرقى؛ تتغلغل كما المطر في مسام التربة وتلابيب الوجدان، وتسيل كما المياه بالراحة على السطوح، وتنفذ كالأشعّة والعطر، وتُشبع من دون ولائم، وتُغني من دون رنين، وتُطرب من دون ضجيج، وتلحّ من دون وخز وغزّ، وتسمو من دون سلالم، وتؤمن من دون طقوس، وتأتلق من دون وقود، وتعبر من أيّ حدود…
الثقافة الحقّة موهبة واغتناء، ونماء ونضوج وإثمار؛ هي موسم دائم الاكتناز، وجنى وفير؛ هي بحث عن الجواهر والدرر، ولها أثرة اكتشافها وتنقيتها؛ لتتخفّف من العوالق والزوائد والأدران، وإطلاقها؛ علّها تخفّف من النفث والخبث.
الثقافة تستدعي، ولا تُستدعى، ترامِحُ ولا ترامَح، لها من القوّة الذاتيّة ما يرتقي بها إلى التميّز والسبق والسموّ.
وليت الموجّهين يكْفونها مسالب انتماءاتهم ومصالحهم الذاتيّة وغاياتهم غير النبيلة، ليتهم يعفونها من مثبّطات؛ بنهمهم وطمعهم وأنانيّتهم، ويتركونها وشأنها؛ فتتطهّر، وتطهّر؛ بعيداً عن الغرائز والتصيّد والصفقات.
ليتهم لا يستخدمونها سبيلاً لتحقيق مآربهم غير الثقافيّة، ولا يتّخذونها مطيّة للعبور والظهور، أو فرس رهان؛ ليحصلوا من دون سباق على وسام الفروسيّة، أو ليهبوه إلى من يريدون؛ من دون وجه حقّ.
ليتهم يكفّون عن أن يكونوا حماة ورعاة ودعاة، وموجّهين إلى ما لا يصحّ، ولا يليق، ومبشّرين بما ليس لديهم، ولا في استطاعتهم تمثّله أو تقديمه؛ على قول قيس ليلى على لسان أحمد شوقي: “وكيف يداوي القلب من لا له قلب؟!”
ما تزال تلك المواجهة بين الريح والشمس؛ في قصّة قرأتها في الابتدائيّة، ما ثلة أمامي، كلّما فكّرت في الثقافة؛ فقد جرى بينهما تحدّ على من يستطيع أن يجعل أعرابيّاً في الصحراء، يخلع سترته؛ وكلّما اشتدّت الريح، تمسّك الرجل بالسترة، حتّى عجزت؛ فأرسلت الشمس أشعّتها، التي ازدادت شيئاً فشيئاً، إلى أن خلع السترة؛ وهو يعجب من تقلّبات الطقس! أمّا نحن، فلا نعجب من اشتداد المواجهة بين الثقافة والرياح، التي تحاول إيهامنا بالاتّجاه الصحيح، ولكنّنا نخشى على الناس من ازدياد النفوذ، ومضاعفة النافذين، والموجّهين، الذين يمارسون ما يريدون وما يناسبهم، وإن كان عكس ما يدّعون. ولا أريد من قولي هذا أن نحجم عن كلّ نشاط كبير، أو نشكّك في كلّ مسعى؛ “حتّى لا تموت المروءة في الصحراء”؛ كقولة ذلك الفارس؛ وهو ينهى عن رواية ما حدث؛ حين خُدع من مدّعي مرض، ونزل ليركبه معه، فهرب بالحصان! ولكن لا بدّ من الحذر والتحذير، ولا بدّ من امتلاك الإمكانيّات العقليّة والمادّيّة، التي تجعلنا نطمح إلى أن يكون للثقافة حصانتها، وقدراتها، وكوادرها، الحريصة على أصالتها؛ لنتمكّن من أن نميّز الجوهريّ من المدّعَى والمدّعي، وأن نتعرّف النبيل من المراوغ.
(سيرياهوم نيوز2-الاسبوع الادبي)