زاهي وهبي
المعركة ليست على الأرض وحدها، بل هي معركة على الرواية، فمن يسيطر على الذاكرة يملك مفتاح المستقبل. بهذه العبارة يمكن أن نلخص جوهر الحرب الشاملة التي تشنها إسرائيل ضد الوجود الفلسطيني؛ فالحرب الدائرة في فلسطين أكثر تعقيداً من مجرد صراع على الأرض لأنها معركة وجودية تستهدف الذاكرة الجمعية والهوية الثقافية للشعب الفلسطيني.
وإذا كان الاحتلال يدرك أنّ طمس الهوية أشد فتكاً من طمس المعالم الجغرافية، فإن مثقفين كثر، أدركوا مبكراً أن الثقافة هي خندق المقاومة الأصيل، وأن الرواية أقوى من الرصاص في حرب البقاء. ولعل المعركة الثقافية تكتسب أهمية مضاعفة الآن، في ظل اختلال ميزان القوى لمصلحة المحتل، وصحوة شعوب العالم، ولا سيما جيل Z منهم، حيث يشكل الأدب والفن لغة إنسانية قادرة على تخطي الحدود والحواجز، ومخاطبة الوجدان والضمائر في كل مكان.
سرقة التراث وقمع الإبداع
لا تقتصر هجمات الاحتلال على المصادرة المادية فقط، بل تمتد إلى محاولة طمس الهوية الثقافية عبر محاور عدة:
– الاستيلاء المنظم على التراث: إذ انطلقت إسرائيل نحو احتلال الذاكرة الشعبية. فأطباق المائدة التي تختزل حكايات المكان، مثل «الملوخية» و«الزعتر» و«الكنافة»، والأزياء التقليدية المطرزة بتفاصيلها الدالة على المناطق والقرى الفلسطينية، باتت تُقدم للعالم على أنها جزء من «التراث الإسرائيلي» المزعوم. هذه السرقة ليست عشوائية، بل هي جزء من استراتيجية ممنهجة لتفريغ الفلسطيني من مكونات هويته.
– قمع الفعاليات الثقافية: تشهد الأراضي المحتلة، خصوصاً في المرحلة الراهنة، حملات ممنهجة ضد أي نشاط ثقافي يذكر بالهوية الفلسطينية. فالحفلات الموسيقية تُمنع، والمسارح تُقتحم، والأدوات الفنية تُحطم، وصولاً إلى اعتقال كل من يرتدي الكوفية الفلسطينية، التي تحولت من قطعة قماش إلى لافتة هوية وعلامة مقاومة.
– تهديد المقدسات والرمزيات: تتعرض مدينة القدس ومقدساتها، وعلى رأسها المسجد الأقصى، لحملات تهويد ممنهجة. فاقتحامات المستوطنين، وتخصيص الموازنات لها، ومحاولات فرض «التقسيم الزماني والمكاني» داخله، كلها تهدف إلى اقتلاع المدينة من هويتها العربية والإسلامية.
أصوات صنعت الوعي وصاغت الهوية
ليس جديداً القول بأهمية الثقافة وجدواها في معركة الوجود. ثمة أصوات مبدعة كثيرة أدركت هذا الأمر، وكرست أقلامها وريشاتها ونوتاتها في سبيل ترسيخ الهوية الوطنية، ولئن توقفنا في هذه الأسطر عند بعض الأسماء، فلا يغيب عنا أن القائمة طويلة، فيها الروائيون والرسّامون والنحاتون والموسيقيون والسينمائيون والمسرحيون ومعظم العاملين في حقلَي الأدب والفن، لا تتسع لها هذه العاجلة، لكننا نورد بعض الأسماء على سبيل المثال لا الحصر، وقد تجنبنا ذكر الأحياء منهم الآن بنية العودة إليهم في نصّ آخر:
– فدوى طوقان (1917-2003)، والتي بدأت شاعرة ذاتية تغرد من داخل قفص العائلة والتقاليد، لكن تحولها نحو شعر المقاومة كان تحولاً وجودياً، خاصة بعد نكسة 1967، حيث صارت «سنديانة فلسطين» و«شاعرة المقاومة الفلسطينية»؛ وتمازجت في نصوصها المأساة الفردية والجماعية، ومثلت سيرتها الذاتية في كتابي «رحلة صعبة» و«الرحلة الأصعب» هذا التمازج بين المعاناة الشخصية والمعاناة الوطنية، خصوصاً وأنها عاصرت نكبة عام 1948، ونكسة عام 1967، والانتفاضتين.
نشهد اليوم صمتاً أو
تواطؤاً من بعض النخب
– غسان كنفاني (1936-1972) الذي جمع في سيرته ونصوصه بين السياسي والأدبي، ومثل النموذج الأكثر وضوحاً للمثقف العضوي الذي حوّل الأدب إلى سلاح مقاومة.
كان يؤمن بأنّ «الأديب الملتزم في مواقفه ورؤيته هو أدعى الناس للالتزام بالشرط الجمالي للإبداع». وأسهم بشكل فعّال في التأسيس لفكر تحرري متميز حيث تميزت كتاباته السياسية بروح نقدية أصيلة، محاولاً تطويع الفكر الماركسي ليتناسب مع الواقع الفلسطيني، معتبراً أن البُعد القومي المرتبط بالهوية أمر أساسي في حالة التحرر الفلسطيني.
– معين بسيسو (1926-1984)، الذي جعل الشعر سلاحاً في وجه القمع، وعاش تجربة قاسية مع السجون والتعذيب، وهو من قال: «شعرت بأن السوط قد رسم خريطة فلسطين على ظهري».
من داخل الزنزانة، كان يكتب: «علمتني الزنزانة السفر لمسافات بعيدة، وعلمتني أيضاً الكتابة لمسافات بعيدة». انحاز بسيسو في شعره للطبقات الكادحة في المخيمات، معتبراً إياها «خزان الثورة ورأسمالها الثوري والبشري».
– مثّل توفيق زياد (1929-1994) صوت الشعب الذي لا يموت وجسد الإرادة الشعبية، وتحول إلى ظاهرة شعرية ملتصقة بالجماهير، وصارت قصائده أناشيد ترددها الجماهير في المسيرات والمظاهرات. لم يكن شاعراً ينأى بنفسه عن الناس، بل كان صوته صدى لأصواتهم، يعبر عن آمالهم وآلامهم بلغة بسيطة عميقة.
قاد «إضراب يوم الأرض» عام 1976 بخطابه الملتهب، وكان أحد أهم الأصوات التي حافظت على الهوية العربية في الداخل. معبراً عن الإرادة الجماعية للشعب الفلسطيني في الصمود، كما في قصيدته الخالدة «بأسناني» التي أصبحت رمزاً للتحدي: «بأسناني، بأسناني سأحمي كل شبر من ثرى وطني، ولن أرضى بديلاً منه لو علقت من شريان شرياني».
– شكل سميح القاسم (1939-2014) مع رفيقَي دربه محمود درويش وتوفيق زياد، مثلثاً ثقافياً صامداً في وجه محاولات القمع والتهويد. تعرض للسجن والملاحقة والإقامة الجبرية، لكنه ظل منحازاً إلى قلمه وشعره، مؤمناً بأن الثقافة هي أقوى أسلحة المقاومة. تميزت قصائده بنبرة التحدي والثقة بالنصر، كما في قصيدته «تقدموا» التي يسخر فيها من آلة القمع: «تقدموا، كل سماء فوقكم جهنم، وكل أرض تحتكم جهنم، يموت منا الطفل والشيخ ولا يستسلم».
– لم يكن محمود درويش (1941-2008) مجرد شاعر، بل كان صاحب مشروع ثقافي متكامل، إذ أسس مجلة «الكرمل» التي شكلت منبراً ثقافياً مهماً. واشتغل بشكل خاص على إبراز القضية الفلسطينية كقضية إنسانية، إذ استطاع عبر شعره تقديم قصائد تمس كل البشر الذين يعانون الظلم والشتات. وقد أثارت قصيدته «عابرون في كلام عابر» غضب قادة الاحتلال وسخطهم.
– مثل مريد البرغوثي (1944-2021) صوت الفلسطيني في المنفى بامتياز، وحوّل تجربته الشخصية مع التشرد والاغتراب إلى إبداع أدبي خالد. في سيرته الذاتية «رأيت رام الله» التي حازت جائزة نجيب محفوظ، استطاع أن يلتقط لحظة العودة إلى الوطن بعد ثلاثين عاماً من المنفى، محولاً الرحلة الشخصية إلى ملحمة جماعية تعبر عن مأساة شعب بأكمله. عبّر في شعره عن إيمان راسخ بأن المقاومة ليست فقط بالسلاح، بل بالكلمة والصمود والذاكرة.
– مثل ناجي العلي (1936-1987) نموذجاً فريداً للمقاوم بالرسم، واستطاع عبر شخصية «حنظلة» أن يخلق رمزاً للفلسطيني المعذب الذي يواجه الاحتلال بالصمت والتحدي. دفع العلي حياته ثمناً لرسوماته الشجاعة والعابرة للزمن عبر وعيه السياسي ونظرته الثاقبة، إذ لا تزال رسوماته تحاكي واقع الحال الراهن رغم مرور عقود على رسمه لها. اغتيل في لندن عام 1987، ما يؤكد أن الفن كان سلاحاً خطيراً في وجه المحتل.
أدب الالتزام والجمال معاً
تميز هؤلاء المبدعون بقدرتهم على الجمع بين الالتزام القومي والجمال الفني، فلم يقدموا خطاباً شعاراتياً مباشراً، بل مزجوا السياسي بالجمالي، مستخدمين الرمز والأسطورة والصورة الشعرية، ما منح أعمالهم قدرة على البقاء والتأثير. وقد استمدوا من التراث الفلسطيني والعربي والإنساني، واستلهموا من سيرة بني هلال، ومن الأساطير القديمة، ومن الحياة اليومية للفلاحين والبسطاء، مؤكدين على أن الهوية الفلسطينية هوية ضاربة في التاريخ.
وقد نجحوا في نقل القضية الفلسطينية إلى العالم عبر ترجمة أعمالهم إلى لغات متعددة، والمشاركة في المهرجانات الدولية، والتواصل مع مبدعين عالميين، كما فعل معين بسيسو مع شعراء مثل رفائيل ألبرتي وفيدريكو غارسيا لوركا.
واجه المثقفون الفلسطينيون تحدي التشتت الجغرافي بين الداخل والشتات، ما أدى إلى «نص متعدد المرجعيات، والمعايير، والأطر، والجودة الفنية، واللغة». لم يكن الأدب الفلسطيني في أرض واحدة، وبالتالي لم يواجه نفس التحديات. وفي مرحلة الثورة، رافقت عملية تشكيل الفضاء الثقافي الفلسطيني مشكلات أهمها «طغيان الطابع العاطفي/ الشعاراتي/ العسكري على حساب طابعها العقلاني/ السياسي/ الشعبي». وفي هذا السياق، «باتت الثقافة، بالنسبة إلى الفصائل، مجرد ملحق بها، للتبرير والتجميل، وليس للفحص والنقد والتدبير».
لم يكن للفلسطينيين، كشعب، «صحيفة يومية جامعة، ولا إذاعة أو قناة تلفزيونية أو مكتبة أو معرض أو مسرح، كما ولا مدرسة أو جامعة». وقد صعدت كوكبة الفلسطينيين المبدعين «بسبب مواهبها، وإبداعاتها، ومثابرتها على تحدي الواقع الذي ألمّ بشعبها، وعنادها في مواجهة عمليات الإنكار والتهميش».
سردية الحق والجمال
في مواجهة آلة الطمس هذه، أدرك الفلسطينيون أن الثقافة هي خندق المقاومة الأصيل. وأصبحت بالنسبة إليهم بوصلةً متعددة الاتجاهات:
– سلاح تثبيت الهوية: إن الحفاظ على التراث من أكلات وأزياء وأغانٍ هو بمنزلة شهادة ميلاد جماعية تؤكد «كنا نحن وسنبقى».
– وسيلة لنقل الرواية: العالم يشاهد عبر الشاشات. والفنانون والمبدعون الفلسطينيون يستخدمون الأدب والموسيقى والدراما لنقل معاناة شعبهم وعدالة قضيته.
-أداة للصمود اليومي: إن ارتداء الكوفية، أو ترديد أغنية وطنية، أو تعليم الرقصات الشعبية للأطفال، هي أفعال مقاومة يومية.
ليست فلسطين هي الحالة الوحيدة التي يحارب فيها المحتل الثقافة، فالتاريخ يخبرنا أن كل محتل يدرك أن طمس هوية الشعوب المحتلة هو الطريق الأقصر لتدجينها. ففي جنوب أفريقيا أيام الأبارتايد، حاربت السلطات ثقافة السود وموسيقاهم ولغاتهم. وفي الحقبة الاستعمارية المباشرة، عمل المستعمرون في بلدان مختلفة على محو اللغات المحلية وفرض ثقافتهم كأداة للهيمنة.
الحاجة إلى الأصوات الجديدة
تبقى الدروس المستفادة من تجربة فدوى طوقان، غسان كنفاني، معين بسيسو، محمود درويش، توفيق زياد، ناجي العلي وسميح القاسم ونظرائهم كثيرة، أهمها أن الثقافة سلاح لا ينضب، وأن المثقف الحقيقي هو من يظل صوتاً حراً مستقلاً حتى وإن عمل ضمن إطار المقاومة.
ونحن اليوم، نشهد صمتاً أو تواطؤاً من بعض النخب، ونسجل غياب صوت المثقفين عن مواكبة التحولات الهائلة التي تشهدها بلادنا، بل يصمت بعضهم حتى عن جريمة الإبادة في غزة والعدوان اليومي على لبنان، ما يدفع إلى الحديث عن ضرورة استلهام إرث هؤلاء المبدعين الملتزمين.
فكما واجهوا محاولات الطمس والاغتيال، يواجه المثقف الفلسطيني اليوم حرباً شاملة على الذاكرة أشد ضراوة. لكن إرث هؤلاء العمالقة يثبت أن الثقافة أقوى من الاحتلال، وأن الكلمة الحق لا تموت بموت كاتبها… وسوف تظل الثقافة الفلسطينية شاهداً على هوية الأرض وأصحابها، وتذكيراً للعالم بأن شعباً يحافظ على تراثه وفنه وأدبه هو شعب يرفض الاندثار، وسيظل يناضل حتى تحرير أرضه.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
