د. رحيم هادي الشمخي
توفي الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في التاسع من تشرين الأوَّل عام 1934 عن عمر لا يتجاوز منتصف العقد الثالث، لقد أشبع نقداً وتحليلاً من شعره ونثره، من أدائه ومواقفه، وتراوحت هذه الدراسات من المقالات الجميلة إلى البحوث الأكاديمية، إلى المهرجانات والملتقيات المختصة في شأنه، إلا أن ما يستطيعه المرء في إطراقة رمزية تتماشى وما كان أثيراً عند الشابي من أسلوب في النظر والإيحاء، هو أن يصوغ للشاعر الرقيق باقة ورد بعيداً عن دقة تمحيص البحوث المتعمقة، وجفاف استقصاء الجوانب النقدية لتراثه الفني في الأدب العربي.
ثلاثية متماسكة الأطراف متفرعة الغصون إلا أنها روافد القلب الرئيسة عند شاعر الجريد التونسي الموهوب (أبي القاسم الشابي) وهي وإن لم تَعْدُ أن تكون معهودة باعتبارها متكونة من أغراض في القريض، إلا أنها بتلاحمها في لا وعي وجدان الشاعر تلاحماً مندمجاً، وبعنفوان وشفافية المعاني الواردة ضمنها، وبسلاسة وحسن سبك الصور الفنية الموشية لها من إخراج عفوي رقراق نافذ تمثل بحق عمق المعاناة وإبداع الولادة، فالولادة دوماً ولادة في قاموس الزمن بشهورها المعلومة ومواصفاتها القادرة إلا أنه ما من بصمة مولود تشابه بصمة غيره من المواليد، وبصمات هذه الولادة الشعرية، رغم تأثرها بمواصفات إطار الشعر والشعراء، ذات نكهة خاصة جعلت صاحبها رغم صغر سنه، وتدرجه الأدبي الفض يبرز بروز العلامة المضيئة، ويحتفظ الزمن بالبريق فلا تطفئه عوامل الدهر، ولا تغيره الأحوال، وخصوصاً موجات التعتيم والتأويل، الأرض والطبيعة والمرأة هي العروة الوثقى المتلاحمة في قصائد الشابي، من تناغم وتكامل وتزاوج يستمد إكسيره من واقع إنساني، لا ينضب معينه، ونفسية مشتعلة في نعومة واستحياء ومخاض فني منهمر الاقتباس، في شعر أبو القاسم الشابي البعد الثوري الذي هو المنطلق في الأعماق، كرامة الأرض وعزة الوطن، ويتصاعد النشيد السرمدي متجاوزاً كل كفاح محدود، أو رقعة ضيقة ممجداً العصارة الإنسانية في فن البطولة والكفاح العربي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة
تبخر في جوها واندثر
وفي أطوار معاناة الشاعر هذه القضية، فصول قوامها التمزق من الواقع المرير، والأخذ والرد بين اليأس والترقب، والتقلب بين الانطواء والغروب والتوثب والمواجهة فهو الثائر، أما في الطبيعة وهي واحة الشابي فقد اعتبرها المنبع والملاذ، هي الرمز والمفتاح، هي الجمال المصفى والأسباب المنتشى، هي واحة الاطمئنان والسلوان، تلك هي الطبيعة في وجدان الشابي يتغزل بها ويذوب فيها، فالطبيعة عنده جمال وبراءة وعفوية، تنساب صورها رقراقة كالخيال المرافق.
كم من عهود عذبة في عدوة الوادي النضير
فضية الأسمار مذهبة الأصائل والبكور
كانت أرق من الزهور ومن أغاريد الطيور
وألذ من سحر الصبا في بسمة الطفل الضرير
أما المرأة والرمز، فهما رمز الرموز ونقطة تزاوج المقاييس والأبعاد، يحمله الشاعر, إذ يحدث عنها إلى عوالم زاخرة بالمواصفات الجمالية المخملية، فينتابه خدر لذيذ، ويسترخي منه الوجدان، وتنصهر الأحاسيس، وتسلس القياد إلى المخيلة الجموح في رحلة حريرية الدرب.
عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللحن كالصباح الجديد
كالسماء الصحوى كالليلة القمراء كالورد كابتسام الوليد
أنت دنيا من الأناشيد والأحلام والسحر والخيال المريد
أنت فوق الخيال والشعر والفن وفوق النهر وفوق الحدود.
وتتجاوز اللفظة المنسابة عتبات الحسن والغزل والصورة الأنثوية والعرض الدنيوي لتحمله إلى عبق سرمدي مثل:
يا بنة النور إنني وحدي من رأى فيك روعة المعبود
فالإله العظيم يرحم العبد إذا كان في جلال السجود
(سيرياهوم نيوز-تشرين19-2-2021)