آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » الثنائيات القاتلة: حين تتقمّص الضحية ملامح الجلّاد..!

الثنائيات القاتلة: حين تتقمّص الضحية ملامح الجلّاد..!

 

 

د. سلمان ريا

 

في عالم يضجّ بالصخب ويختنق بشعارات النصر والهزيمة، يتكاثر خطاب الثنائيات القاتلة التي تدفع البشر قسرًا نحو زوايا حادّة لا تسع الظلال الرمادية ولا تحتمل فسحة التأمل. ليست هذه الثنائيات مجرد أدوات خطاب سياسي عابر، بل هي آليات تفرض الاصطفاف الإجباري، وتختزل الكون في معسكرات مغلقة، وتصادر من الإنسان حقه في التفلسف، في التمايز، وفي أن يقف خارج قيد الولاءات الجاهزة.

 

تلك العبارة الشهيرة: “من ليس معنا فهو ضدنا”، التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لم تكن زلّة لسان، ولا رد فعل انفعاليًا عابرًا، بل كانت التعبير الأوضح عن عقلية الجدار: تلك الذهنية التي تخرس الاختلاف، وتشيطن الحياد، وتُصادر مساحة التفكير المستقلّ. لقد دشّنت تلك العبارة عصرًا جديدًا من السياسات التي لم تعد تسعى وراء الحقيقة، بل وراء الولاء المحض.

 

غير أن الخطر الأعمق لا يكمن فيمن يُطلق هذه الثنائيات، بل فيمن يتبنّاها كرد فعل. كم من حركات تحرر ومقاومة، مع توالي الأيام، سقطت في فخّ التماهي مع الجلاد! فها هو المقهور، في لحظة انكسار ما، يُعيد إنتاج ملامح مَن كان يقهره. يمسك بالأدوات نفسها: الاستبعاد، العنف، الهيمنة، ويطالب الآخر أن ينحني له بنفس الطريقة التي كان يرفضها بالأمس.

 

المأزق ليس في الرد ذاته، بل في نوعية الرد. فحين ينحدر الفعل المقاوم إلى مجرّد استنساخ ميكانيكي للعنف تحت مسمى “المقاومة”، فإن ما يحدث هو سقوط فلسفي وأخلاقي قبل أن يكون سقوطًا سياسيًا. أن تصبح المعركة مجرّد تبادل أدوار بين جلاد وضحية، دون أن يتبدّل شكل السجن أو أن تُكسر جدرانه، يعني أننا ببساطة نستبدل السجّان بسجّان جديد.

 

كم من ثورات وشعارات تحرّرية تحوّلت إلى أنظمة قمع لا تقلّ شراسة عن تلك التي حاربتها! لقد وقع الكثير في فخ الوهم القاتل: أن الانتصار الحقيقي يتحقّق عندما يتذوق الآخر ذات الألم الذي عشناه. لكن هذا وهم كبير، لا يحرّر أحدًا، بل يوسّع رقعة الألم لتعمّ الجميع.

 

في هذه المتاهة المظلمة، يفقد الإنسان إنسانيته مرتين: مرة حين يكون ضحية، ومرة حين يتحوّل إلى جلاد. التحدي الفلسفي الأعمق لا يكمن في الانتصار على الآخر، بل في الانتصار على البنية النفسية التي تدفعنا إلى تكرار النموذج الذي ندّعي مقارعته.

 

الردّ الحقيقي لا يكون باجترار آليات العنف، بل بتفكيكها من جذورها. ليس في مراكمة القوّة لأجل الانتقام، بل في إعادة تعريف القوة ذاتها لتغدو قوة تحرير، لا قوة قهر مضاد. أن تنتصر على عدوّك لا يعني أن تتحوّل إلى صورته.

 

الثنائيات القاتلة تدفعنا إلى الإيمان بأن العالم حلبة مغلقة: إمّا أنا أو أنت. لكنّ العالم، في جوهره، أكثر اتساعًا وتعقيدًا مما تراه تلك العيون المحبوسة في سرديات الاصطفاف الحاد. هناك دومًا فسحات ثالثة، طرق غير مطروقة، احتمالات تتجاوز منطق الغالب والمغلوب.

 

التحرر الحقيقي يبدأ حين نكسر هذه الحتميات القاتلة، حين ندرك أن “العدو” ليس دائمًا صورة ثابتة، وأن الدفاع عن الذات لا يعني أن نستلهم معجم القامع ولا أن نطالب الآخر فقط بتبديل راياته لأننا رفعنا راية مغايرة.

 

المعركة الأخلاقية الكبرى ليست في أن نربح الجولة، بل في أن نربح المعنى. أن ننجح في تحطيم بنية الغزو من أساسها لا أن نتفنّن في إعادة تدويرها تحت شعارات جديدة.

 

الانتصار الذي لا يصنع عالمًا أكثر عدالة، ليس انتصارًا على الإطلاق. بل مجرّد إعادة ترتيب للكراسي حول الطاولة ذاتها.

(موقع اخبار سوريا الوطن-1)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الحرب بين إيران و “اسرائيل”: غائبان كبيران..مجلس الأمن ومنظمة التعاون الاسلامي

  د. جورج جبور منذ ليلة 12– 13 حزيران الحالي والى وقتنا هذا لم تهدأ الحرب التي ابتدأت بهجوم “اسرائيل” جواً على إيران. اتابع كما ...