- محمد ناصر الدين
- الثلاثاء 15 كانون الأول 2020
عرفنا جون لو كاريه في أعمال عديدة انتقلت إلى المكتبة العربية، أولها روايته الأبرز «الجاسوس المستجير من البرد» (ترجمة شاكر حسن راضي) التي جاء في شهادة الروائي الكبير غراهام غرين أنها أفضل رواية جاسوسية ظهرت حتى اليوم، ألقت الضوء على كثير من خفايا الرعب والسلطة في المعسكر الاشتراكي كله، وليس فى ألمانيا الشرقية وحدها حيث تدور أحداث الرواية. يؤكد الكثير من النقاد أن لو كاريه استفاد في تأليفها من ملفاته السرية كمحقق يتقن اللغة الألمانية ويعمل في الاستخبارات البريطانية في النمسا عام ١٩٥٠ على ملفات الألمان الراغبين في الانتقال إلى الغرب. عمل آخر عرفناه للو كاريه هو «خيوط المؤامرة» (ترجمة مروان سعد الدين ـــ الدار العربية للعلوم) التي يروي فيها قصة سلفادور الذي جاء إلى الدنيا إثر علاقة غير شرعية بين مبشّر كاثوليكي ايرلندي الجنسية وابنة أحد زعماء القبائل في الكونغو. يسرد لو كاريه عبر البطل رحلة «سالفو» الذي تلقّى علومه في مدرسة الإرسالية في مقاطعة كيفو في شرق الكونغو، ولاحقاً في ملاذ منعزل خاص بأبناء السفاح، حيث وجّهه مرشده الأخ ميشال للتدرب كمترجم محترف مختصّ بلغات الأقليات الأفريقية التي كان جامعاً نهماً لها. يعري عبر هذه البانوراما رحلة البطل من «ظلمات» النفاق الأوروبية إلى نور أصالة ثقافة الأطراف ونقائها. عرفنا لو كاريه أيضاً في «سمكري خياط جندي جاسوس» التي انتقلت إلى العربية أخيراً («دار التنوير» ـــ ترجمة يزن الحاج) وتدور أحداثها في أجواء الحرب الباردة.
الرواية التي تكرّرت طبعاتها، كما أعمال عديدة للو كاريه، تحوّلت إلى فيلم سينمائي ( Tinker tailor soldier spy) من إخراج توماس ألفردسون وتتناول الصراع بين المخابرات البريطانية والمخابرات الروسية في أوروبا في خضم الحرب الباردة. الكاتب الذي جاء إلى الأدب من عالم الاستخبارات كانت له نظرة نقدية حول النظام التعليمي البريطاني العام منذ نعومة أظفاره في مدرسة «شيربورن»، لتنمو عنده حاسّة الرصد والمراقبة إبان انتقاله إلى «أكسفورد» والتدرّج في صفوف المخابرات البريطانية ودراسته العميقة للمعسكرين المتصارعين خلال الحرب الباردة. إذ كان مكلّفاً برصد الجواسيس المزروعين من المخابرات السوفياتية وتوابعها وتتبّع الموجات اليسارية بين الطلاب، كما حصل في «أكسفورد» على بكالوريوس في الآداب وأتقن فيها اللغتين الفرنسية والألمانية. بداية الستينيات كانت عاملاً حاسماً لصاحب call for the dead وa murder of quality، إذ انتقل إلى الأدب ليطل عبر شخصيته الشهيرة سمايلي التي تشبه شخصية بوارو عند أغاثا كريستي أو جيمس بوند عند إيان فليمنغ، وليطل عبر ثنايا الروايتين بعين نقدية على ثنائية شرق/غرب أو على مساوئ النظام التعليمي في الغرب عموماً، من خلال التحقيق في جريمة قتل طالب شيوعي وتحقيق في مدرسة سيئة السمعة، وغيرها من القضايا العميقة التي لا يشكل قالب التشويق إلا رأس جبل الجليد فيها.
حاز جون لو كاريه في حياته الأدبية الكثير من المجد، من تصنيفه عام ٢٠٠٨ ضمن أفضل مئة مؤلف بريطاني منذ عام ١٩٤٥، إلى شهادات فخرية من جامعات «باث» و«أكسفورد»، وميدالية «معهد غوته» الألماني عام ٢٠١١، إضافة إلى تخصيص صحيفة الـ «غارديان» لمقالاته بعنوان not one more death بمجلد كامل. بغياب جون لو كاريه، تخسر الرواية العالمية أحد البارعين القلة ممن حوّلوا أدب الجاسوسية من أدب «خفيف» إلى حفر في البنية التحتية للمجتمع الغربي، واستجواباً للمتهمين والمشتبه فيهم، إضافة إلى استجواب الحرية في الغرب في المسافة الشاسعة بين شعاراتها الكبيرة، والممارسات التي تطعنها على الأرض في صميم فكرتها، إضافة إلى طرح شجاع يتحاشاه الكثير من الغربيين، حول تكافؤ أخلاقي شرقي غربي، ووجود ثقافات وازنة ومبدعة غير المركزية الغربية… تكافؤ يقود اختلال ميزانه إلى الكثير ممّا نراه من مآسي الأمس واليوم
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)