علي عواد
استطاعت العصا الإسرائيلية قمع الحريات على منصات التواصل الاجتماعي منذ بداية حرب الإبادة ضد شعب غزة. صحيح أنّ بعضها نجا لبعض الوقت، لكن يبدو أنّها انصاعت أخيراً للمطالب الصهيونية. الجبهة الثانية التي أقلقت كيان الاحتلال، كانت التظاهرات الشبابية في الغرب التي لم يستطع هضمها. كما لم يرق لها نزول مئات آلاف الشباب نصرة لفلسطين وتشكيلهم مجموعات في أبرز الجامعات، فما كان من العدوّ إلا أن سخّر كل أدواته محاولاً تركيع القائمين على تلك الجامعات
من المذهل مشاهدة كيف تتحرّك قوى الظلام. تحدث الأمور عادة بشكل غامض ومتناقض يمنع ربط النقاط والوصول إلى من يحرك الخيوط. لكن اللعب اليوم صار علنياً وفوق الطاولة.فوجئ مستخدمو X أخيراً بعدم وجود الفيديوات التي انتشرت أثناء عملية «طوفان الأقصى» على المنصة. مئات الفيديوات وآلاف الصور تبخّرت. حتى أنّ عدداً من المستخدمين الذين ينشرون محتوى مناصراً لشعب غزة يشكون من تراجع نسبة وصول منشوراتهم إلى بقية المستخدمين. من غير الواضح ما الذي فعله مالك المنصة، إيلون ماسك، بعد عودته من زيارة كيان الاحتلال في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، إذ لم تُعدَّل الخوارزميات ولم يُعلن عن عمليات حذف لمحتوى السابع من أكتوبر. يبدو الأمر أشبه بعملية قضم بطيئة بهدف قمع الصوت الفلسطيني من دون إحداث بلبلة إعلامية.
في 12 تشرين الثاني الماضي، أطلق قطب العقارات، الملياردير الأميركي اليهودي باري ستيرنليخت، حملة بعنوان «حقائق من أجل السلام» لتحسين صورة «إسرائيل» وإظهار «حماس» بشكل سلبي وسط احتجاجات التضامن العالمية المؤيدة للفلسطينيين. تستهدف الحملة الساعية لجمع تبرعات بملايين الدولارات أكثر من 50 شخصية مؤثرة في مجال الإعلام والتمويل والتكنولوجيا، بما في ذلك إريك شميدت، ومايكل ديل، ومايكل ميلكن، بثروة صافية مجموعها حوالى 500 مليار دولار أميركي. يرمي المشروع الذي يقوده ستيرنليخت، إلى جمع 50 مليون دولار من التبرعات الخاصة لوصف «حماس» بأنّها «منظمة إرهابية» ومواجهة ما يعتبره الرجل «تحوّلاً محتملاً في الرأي العام» بسبب الهجمات الإسرائيلية المكثّفة على غزة. وتهدف الحملة الإعلامية التي نصح بها الخبير الإستراتيجي في مجال التواصل جوش فلاستو، إلى إعادة تشكيل التصوّر العام عبر نشر مقاطع فيديو تنكر انتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية وتنفي ممارسات الفصل العنصري في الأراضي المحتلة، مع محاولة معالجة تراجع التأييد لأداء الرئيس الأميركي، جو بايدن، ما تُرجم صراعاً بين الديموقراطيين الأميركيين.
على المقلب الآخر، احتشدت مجموعة من أصحاب المليارات لمواجهة تنامي الصوت الفلسطيني في الجامعات الأميركية المرموقة والتي تشكّل ما يسمّى Ivy League (رابطة تضم جامعات «هارفارد» و«ييل» و«برينستون» و«بنسلفانيا» و«كولومبيا» و«براون» و«دارتموث» و«كورنلي»)، إضافة إلى مؤسسات تعليمية مرموقة أخرى من خارجها. عمد المتبرّعون منذ الشهر الماضي إلى تهديد الجامعات بوقف التمويل عنها حتى تعالج ما سمّوه «تنامي الخطاب المعادي للسامية» داخلها، وأبرزهم الملياردير الأميركي من أصل يهودي أشكنازي، بيل أكمان. تحرّك الأخير ضد «هارفارد» على نحوٍ مريب وطارد رئيسة الجامعة كلودين غاي وطالبها بالاستقالة. بدأت المشكلة عندما نشرت مجموعة طلابية مؤيدة لفلسطين رسالة مفتوحة تحمّل فيها إسرائيل مسؤولية هجوم 7 أكتوبر، لتردّ «هارفارد» أوّلاً بما يشبه اعترافاً أو موافقة غامضة. غياب الموقف أو الرد الحازم على الرسالة أثار انتقادات من جهات عدة. وفي وقت لاحق، أصدرت غاي بياناً أقوى يدين «حماس» لارتكابها «الفظائع الإرهابية»، مشدداً على أهمية «الحوار البنّاء».
ومع ذلك، وصل الجدل حول موقف الجامعة إلى ذروته في جلسة استماع في الكونغرس حول «معاداة السامية» في جامعات الولايات المتحدة بعد بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، إذ مثُل عدد من رؤسائها أمام اللجنة، قبل أن تستقيل رئيسة جامعة «بنسلفانيا»، ليز ماغيل، من منصبها. وكشف الاستجواب، وخصوصاً في ما يتعلق بقواعد السلوك في «هارفارد» والرد على رسالة الطلاب، عن انقسامات عميقة في الحرم الجامعي. لكن رغم الاضطرابات، أعرب مجلس إدارة «هارفارد» الذي يواجه ضغوطاً من الداعمين الماليين والخريجين اليهود والمشرّعين، عن دعمه بالإجماع للرئيسة غاي، مؤكداً ثقة أعضائه في قدرتها على قيادة الجامعة في الأوقات الصعبة. أثار قرار الإبقاء على الرئيسة غاي ردود أفعال متباينة بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والخرّيجين. ففي حين أشاد البعض بدعم المجلس، اعتبره آخرون «فشلاً أخلاقياً». والجدير بالذكر أنّ بيل أكمان الذي كان قد دعا سابقاً إلى استقالة غاي صمت بعد قرار مجلس الإدارة. ونشرت صحيفة «نيويورك تايمز»، في بداية الأسبوع الحالي، مقالاً بعنوان «حملة بيل أكمان ضد جامعة هارفارد أعقبت سنوات من الاستياء» يتحدّث عن أنّ أكمان يثير قضايا مرتبطة متعلّقة بـ «معاداة السامية» في «هارفارد» وبالرئيسة غاي مدفوعاً بـ «مظالم» سابقة تعرّض لها تتعلق بأسهم مالية. وبينما رفض أكمان المقال معتبراً أنّه «مضلّل»، وافق ضمنياً على وجود مشكلات مالية سابقة بينه وبين الجامعة.
اللافت في منشورات بيل أكمان على X ضدّ كلودين غاي، تعليقات إيلون ماسك المؤيدة للمحتوى. هنا، تجدر الإشارة إلى أنّه في زيارته الأخيرة إلى الكيان الصهيوني، أجرى الملياردير الجنوب أفريقي محادثة مع رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، بُثّت صوتياً ومباشرةً على X. وخلالها، عبّر نتنياهو عن رأيه بوجود مشكلة لدى جامعات التعليم العالي في الغرب، مستشهداً يومها بكيفية إنشاء «اتحاد طلاب أوكسفورد» في عام 1933. وسلّط الضوء تحديداً على النقاش الذي دار بين الطلاب الذين قرّروا بمعدّل 2 إلى 1 أنّهم لا يريدون القتال تحت أي ظرف من الظرف، حين سُئلوا إذا ما كان يتعيّن على هذا الجيل القتال من أجل الملك والوطن (الأخبار 29/11/2023).
تحاول إسرائيل ضرب الاحتجاجات والمسيرات الشبابية والطلابية المؤيدة لفلسطين في الغرب. وبغية تحقيق ذلك، حرّكت كل أذرعها من مجموعات ضغط ومشرعين أميركيين وأثرياء يهود، بالتزامن مع حملات إعلامية لتشكيل جبهة تكسر القائمين على تلك المؤسسات الأكاديمية وتخضعهم للسردية الإسرائيلية. لا يمكن للأمور أن تكون أوضح من ذلك: هم لا يستطيعون منع الشباب من التظاهر، لكنّهم يحاولون إخضاعهم عبر جامعاتهم، إلى جانب ابتزازهم بسردية جديدة على غرار ابتزاز إسرائيل للأجيال السابقة بالمحرقة. كما أنّ ما يشكّل دليلاً واضحاً لمن لا يزال يعوّل على إيلون ماسك، على أنّ X تُخفي الأصوات الفلسطينية شيئاً فشيئاً. علماً أنّ مالك شركة الصواريخ «سبيس إكس» مشغول هذه الأيام بعدما أعادت منصّته تفعيل حساب أحد أخطر وأبرز أقطاب اليمين وأكثرهم شعبية في الولايات المتحدة، ألكس جونز. قرّر إيلون الاصطفاف إلى جانب ترامب منذ أن دعمه الرئيس الأميركي السابق في أعماله وأمّن له العقود الحكومية التي كانت كفيلة بمنع إفلاسه. ومنصة X التي أدمنها دونالد ترامب ذات يوم، وأسهمت في وصوله إلى المكتب البيضاوي، أصبحت ملكاً لأقطاب اليمين لا لإيلون ماسك الذي لا تعدو تصريحاته حول أهمية حرية التعبير كونها هراء يحاول عبره تمرير تفعيل حسابات أقطاب اليمين مع بدء الحملات الانتخابية للرئاسة الأميركية في العام المقبل.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية