- محمد العيد
- الأربعاء 6 تشرين الأول 2021
تمرّ العلاقات الجزائرية – الفرنسية، هذه الأيّام، بأزمة عاصفة، لا يبدو أنها ستتعافى منها سريعاً، بعد التصريحات غير المسبوقة التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حول النظام السياسي في الجزائر، وتوصيفاته المسيئة بشأن تاريخ البلاد، وهو ما ولّد موجة سخط جزائرية عارمة على المستويَين الرسمي والشعبي. سخطٌ حاول ماكرون، أمس، امتصاصه، بدعوته إلى «التهدئة والحوار»، وإعرابه عن ثقته بالرئيس عبد المجيد تبون، وتراجعه عن نبرته التصعيدية بالحضّ على «الاعتراف المتبادل والاحترام»الجزائر | بشكل مفاجئ، وخارج أيّ سياق خاص، أطلق إيمانويل ماكرون تصريحات كان لها أثر الزلزال على علاقات بلاده مع الجزائر، إذ قرّرت الأخيرة، على الفور، استدعاء سفيرها في باريس للتشاور، ثمّ اتّخذت بعد ذلك بساعات قراراً آخر بمنْع تحليق الطائرات العسكرية الفرنسية في مجالها الجوي، بينما التهبت من جديد الساحة السياسية والإعلامية، على وقْع عبارات الاستهجان من هذه التصريحات التي اعتُبرت بمثابة إعلان حرب من المستعمر القديم. واللافت أن ماكرون لم يخرج فقط عن اللياقة الدبلوماسية التي جعلته يطلق أوصافاً على النظام الجزائري حادّة جدّاً، بل تعدّى ذلك إلى الحديث باستعلاء كبير عن التاريخ الجزائري، إلى درجة أنه شكّك حتى في وجود الأمة الجزائرية قبل وصول الاستعمار الفرنسي، وهو ما اعتبره الكثير من الجزائريين بمثابة إساءة لا تُغتفر، ناهيك عن الجهل بالتاريخ، ومحاولة استعادة الرواية الاستعمارية القديمة التي برّرت احتلال الجزائر بالمنطق نفسه الذي تحدّث به الرئيس الفرنسي اليوم. وجاء حديث ماكرون، الذي نقلته حصرياً جريدة «لوموند» الفرنسية ولم تَظهر أيّ نسخة مصوّرة منه، في سياق لقاء في قصر الإليزيه جمعه مع أحفاد المهاجرين الجزائريين، سواءً من الذين شاركوا في «حرب التحرير»، أو قاتلوا إلى جانب فرنسا (الحركيين)، أو من العمّال واليهود وغيرهم، وكان الغرض الظاهر منه هو الحديث عن كيفية تجاوز آلام الماضي بين البلدين. لكنّ ماكرون سرعان ما اندفع نحو غاية أخرى، بتصريحاته التي يبدو أنه تعمّد أن تظهر في الإعلام، بحسب الجريدة، حتى يصل كلامه إلى السلطة في الجزائر.
وفي تصريحاته، هاجم الرئيس الفرنسي النظام الجزائري، واصفاً إيّاه بـ«النظام السياسي العسكري الذي بنى نفسه على ريع الذاكرة الاستعمارية وكراهية فرنسا»، والذي «أُنهك من أثر الحراك الشعبي»، ثم عرّج على الرئيس عبد المجيد تبون الذي قال إنه يرتبط معه بحوار جيد، لكنّه يلاحظ أنه «عالق في نظام شديد القسوة». وذهب إلى حدّ القول إن قراراته الأخيرة بتخفيض عدد التأشيرات المخصَّصة للجزائريين إلى النصف، تستهدف النخبة الحاكمة التي تجد سهولة في الحصول على التأشيرة، لكنها لا تقوم في المقابل بالتعاون مع فرنسا في استعادة مواطنيها من المهاجرين غير الشرعيين الجزائريين. وبقي الرئيس تبون، على رغم الأزمات العابرة التي كان يمرّ بها البلدان بسبب ما تبثّه القنوات الفرنسية، محافِظاً على علاقات جيّدة مع نظيره الفرنسي، حيث وصفه في الكثير من المرّات بأن لديه نوايا طيّبة، وبأنه رئيس يختلف عن سابقيه.
يمثّل موضوع الهجرة أحد أبرز اهتمامات الفرنسيين بمناسبة الانتخابات الرئاسية المقبلة
وكان تبون، في مداخلاته، يعتبر أن هناك لوبيّات فرنسية يشدّها الحنين إلى فترة الاستعمار، وهي التي تعمل على تعكير العلاقات بين البلدين، لكنّ تصريحات ماكرون الأخيرة ستدفع من دون شكّ إلى إعادة النظر في هذه المقاربة. وفي الفترة الأخيرة، صعّدت السلطات الفرنسية من لهجتها ضدّ دول المغرب العربي غير المتعاونة معها في استعادة المهاجرين، إذ تفيد الأرقام بأن هناك أكثر من 7 آلاف قرار ترحيل يشمل جزائريين في فرنسا، في حين من تمّ ترحيلهم فعلاً لا يتجاوزون ثلاثين شخصاً. والواقع أن الحديث المتكرّر عن الهجرة في فرنسا، يعود إلى كون ذلك الموضوع أصبح من أبرز عناوين اهتمام الفرنسيين بمناسبة الانتخابات الرئاسية المقبلة، ما اضطرّ ماكرون، المستعدّ لإعلان ترشحه، إلى دخول هذا «السوق الانتخابي»، بعد أن لاحظ صعود أسماء من منافسيه المحتملين يلعبون على الوتر المذكور، خاصة مارين لوبان وإيريك زمور.
لكن ما لم يكن منتظَراً في خطاب ماكرون، هو نكوصه عن التميّز الذي صنعه خلال الحملة الانتخابية للرئاسيات الماضية، حين تبنّى خطاباً يقوم على الاعتراف بارتكاب بلاده جرائم ضدّ الإنسانية في الجزائر، ثمّ قيامه بعد ذلك بإرسال إشارات تجاه الجزائر في إطار مصالحة الذاكرة، عبر إرجاعه جماجم شهداء المقاومة الجزائرية التي كانت تُعرَض في «متحف الإنسان» في باريس، واعترافه بمسؤولية الدولة الفرنسية عن مقتل المحامي والثوري علي بومنجل، ثمّ تكليفه المؤرّخ بن يامين ستورا بإعداد تقرير حول عوائق مصالحة الذاكرة بين البلدين، وغيرها من اللفتات التي لم تُلبِّ المطلب الجزائري العميق بالاعتذار عن جرائم الاستعمار. وفي تصريحاته الأخيرة، انتقل ماكرون من خطابه «التصالحي»، إلى الهجوم على التاريخ الرسمي الجزائري، الذي بحسب زعمه، أعيدت كتابته بالكامل ولا «يقوم على الحقائق بل على خطاب مبنيّ على كراهية فرنسا» (عاد وتراجَع عن نبرته التصعيدية تلك، بدعوته إلى «الاعتراف بالذاكرات كلّها والسماح لها بالتعايش»، وحديثه عن أنه «لم يراعِ الفرنسيين في ما يتعلّق بتاريخنا الخاص»). وادّعى الرئيس الفرنسي أن ما سمّاه «كراهية فرنسا» لم تنبثق من المجتمع الجزائري، «الذي لا يحمل أيّ ضغينة تجاه فرنسا في أعماقه»، ولكنّ «هذا الحقد تَولّد مع النظام السياسي العسكري الذي بُني على هذا الريع التذكاري». ثمّ طَرح تساؤلات غايتها التشكيك في التاريخ الجزائري، قائلاً: «هل كانت هناك أمّة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟». وأدخل ماكرون تركيا على الخط، مشيراً إلى أنه مفتون بقدرتها على أن «تُنسي تماماً الدور الذي لعبته في الجزائر والهيمنة التي مارستها، وتصويرنا وكأنّنا المستعمرون الوحيدون». وتابع بنبرة ساخرة: «هذا رائع. لقد جعلت الجزائريين يؤمنون بذلك».
في المقابل، ردّت الرئاسة الجزائرية على تصريحات ماكرون، بتأكيد رفض الجزائر القاطع للتدخّل في شؤونها الداخلية، كاشفة لأوّل مرّة أن عدد مَن أبادتهم فرنسا في الجزائر يصل عددهم إلى 5 ملايين و630 ألف شهيد منذ بدء الغزو الفرنسي للبلاد سنة 1830. وأكدت أن «جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر لا تُعدّ ولا تُحصى»، و«تستجيب لتعريفات الإبادة الجماعية» ضدّ الإنسانية. وانتهت إلى أن «هذا التدخّل المؤسف، الذي يصطدم أساساً بالمبادئ التي من شأنها أن تقود تعاوناً محتملاً بين الجزائر وفرنسا بشأن الذاكرة، قد أدّى إلى الترويج لنسخة تبريرية للاستعمار، في الوقت الذي لا يمكن فيه لأحد أو لشيء أن يغفر للقوات الاستعمارية ولجرائمها، ولا سيما مجازر 17 أكتوبر في باريس». من جهتها، دعت «المنظّمة الوطنية للمجاهدين»، التي تجمع قدامى المقاتلين في حرب تحرير الجزائر، في بيان، إلى «مراجعة العلاقات» الجزائرية – الفرنسية بعد تصريحات ماكرون.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)