| حسام حمزة
التوجّس المضاعف للجزائر إزاء كل ما قد يهوي بمالي مجدّداً في مستنقع الاقتتال، أو يُحيي المطالب الانفصالية لدى الطوارق، تبرّرها تخوفاتها من انبثاق سياقات تسمح بتدخّل الفواعل المعادية للجزائر والمتربّصة بها في المنطقة.
لم تتأخّر الجزائر في التحرّك لوقف التوتّر المتصاعد بين حكومة باماكو والحركات السياسية المالية، ولا سيما بعد أن علّقت حركات الأزواد قبل أشهر مشاركتها في هيئات صنع القرار في اتفاق السلم والمصالحة، مبرّرة ذلك بتراجع الحكومة المركزية عن تطبيقه.
وسبق أن أعلن المكتب التنفيذي لتنسيقية الحركات الأزوادية، التي تضمّ كلاً من الحركة الوطنية لتحرير أزواد والمجلس الأعلى لوحدة أزواد والحركة العربية الأزوادية، أنّ اندماجاً في كيان سياسي وعسكري واحد يجري بينها، بحسب ما ورد في وثيقة وقّعت عليها الحركات المذكورة بتاريخ الثامن من شباط/فبراير 2023.
وبقدر ما يـُنبئ تحرّك الجزائر بحرصها على ألّا ينتكس مسار تنفيذ الاتفاق من أجل السلم والمصالحة، والذي يُعَدّ حجر الزاوية في هندسة بناء الأمن والاستقرار في مالي منذ عام 2015، فإنه يشي أيضاً بحساسيّتها إزاء أيّ حركية ارتكاس أمنيّ عند تخومها الجنوبية، قد تحبط مساعيها الأمنية والسياسية غير المنقطعة منذ 8 أعوام تقريباً، وتنزلق بمنطقة الساحل برمّتها في أتون النزاع تارة أخرى.
أتى التحرّك الجزائري في شكل استقبال رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، لرؤساء وممثّلي الحركات السياسية لجمهورية مالي، وعلى رأسها تنسيقية حركات الأزواد، يوم 26 شباط/فبراير في مقرّ الرئاسة في العاصمة الجزائر. وممّا انبثق من اللقاء، تأكيد الجزائر التزامها تجاه جميع الأطراف في مالي من أجل التوصّل إلى تفاهم بشأن ضمانات أقوى لتطبيق شامل لاتفاق السلم والمصالحة، باعتبارها الراعية له.
قبل هذا، وفي 16 كانون الثاني/يناير 2023، تحديداً، استقبل الرئيس الجزائري وزيرين من حكومة باماكو، هما عبدولاي ديوب، وزير الخارجية والتعاون الدولي، والعقيد الركن إسماعيل واق، وزير المصالحة والسلم والتلاحم، وأعلن وقتها أيضاً أنّ جزءاً كبيراً من المحادثات بين الطرفين ركّز على آفاق التنشيط والتعزيز لوتيرة تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة عبر تعاون جميع الأطراف المالية الموقعة عليه في إطار آليات متابعة تنفيذ الاتفاق، التي تشرف عليها الجزائر.
من الواضح أنّ القاسم المشترك بين الجهود الجزائرية ذات الصلة بالملف المالي، في الأشهر الثلاثة الأخيرة في الأقلّ، هو الاتفاق من أجل السلم والمصالحة وسبل إعطائه ديناميكية جديدة وضمانات أقوى تظفر بثقة الأطراف، وتضمن استمرار التزامها تجسيد بنوده على نحو يجنّب مالي العودة إلى حالة ما قبل الاتفاق.
يجب الإشارة إلى أنّ جهود الجزائر المرافقة لم تتوقّف في الأصل، بيد أنّ ما حفزّها أكثر مؤخّراً هو تصريحات أمادو ألبرت مايغا، عضو المجلس الوطني الانتقالي المالي، والذي قال في بداية شباط/فبراير 2023 إنّ الجيش سيبدأ قريباً عمليات لاستعادة سلطة الدولة المركزية على كيدال، مؤكداً أنّ “الحرب (هناك) أمر لا مفرّ منه”.
هذه التصريحات، المنطوية على نبرة تهديد، أتت في أعقاب نذر توتر للعلاقة بين حركات إقليم أزواد وحكومة باماكو، لاحت منذ العاشر من كانون الأول/ديسمبر 2022، حين أعلنت تنسيقية حركات الأزواد، المتحكمة في ولايات شماليّ مالي، في رسالة لها إلى وزير الخارجية الجزائري، وقّعها رئيس التنسيقية العباس آغانتالا، نيّتها تعليق مشاركتها في تطبيق اتفاق الجزائر بحجّة الافتقار المتواصل إلى الإرادة السياسية لتجسيد كل موادّه لدى الحكومات المتعاقبة في باماكو، داعية إلى عقد اجتماع طارئ مع كلّ الوسطاء الدوليين في مكان محايد لفحص استدامة الاتفاق.
في جذر هذا الخلاف، الآيل إلى التفاقم بين الأزواد وحكومة باماكو، تقع مشكلتان رئيستان: أُولاهما هي التقاعس عن تطبيق ما نصّت عليه فصول “مسائل الأمن والدفاع” من اتفاق السلم والمصالحة، ولا سيما الفصل السابع والفصول التي تليه، والتي نصّت صراحة على دمج المقاتلين السابقين في الجيش المالي النظامي.
أمّا المشكلة الثانية فهي عدم التزام المقاربة اللامركزية في حوكمة أقاليم الأزواد وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً، على نحو يتلاءم مع ظروفها، وهو ما نصّت عليه مواد الفصل الثاني عشر من الاتفاق.
كِلتا المشكلتين تضعنا مجدَّداً أمام حقيقة الأزمة المالية وأزمة الريبة والشكّ المتبادلين، اللذين يطبعان العلاقة بين أطرافها، ويُعَدّان الحائل الأكبر أمام تجسيد مواد الاتفاق بينها.
من نقطة البداية هذه، ووسط تبادل الاتهامات في عرقلة تجسيد الاتفاق وما واكبها من موجة متصاعدة في التصريحات بين الأطراف الموقّعة عليه، والواقع على عاتقها أيضاً واجب تطبيقه، طفت إلى السطح مجدّداً العوامل الكامنة والمتأصّلة للنزاع بين شمالي مالي وجنوبيّها، مسبّبة حرجاً للأطراف الراعية له، وعلى رأسها الجزائر، التي تَعُدّ مالي عمقها الاستراتيجي والبطن الرخوة لمنطقة أمنها القومي.
أمام هذا المشهد، كان من الطبيعي أن تسارع الجزائر إلى احتواء الوضع تجنبا لمآلات أعقد على الوضعين السياسي والأمني في مالي مستقبلاً. ولا يحتاج إلى توكيد، أنّ حرص الجزائر على تمتين الاستقرار والأمن في مالي ينبع أصالة من التزاماتها أمام الأخيرة وشعبها أوّلاً، ثمّ أمام المجتمع الدولي تالياً، باعتبارها راعية لاتفاق المصالحة في مالي والمشرفة على آليات متابعة تنفيذه. وليس التزام الجزائر هذا جديداً، ذلك بأنه امتداد لتلك الجهود الجزائرية التي لم تتوقـّف منذ اتفاق تامنراست الموقـّع في السادس من كانون الثاني/يناير 1991، الذي وضع حدّاً للتمرّد الذي اندلع في أقاليم شمالي مالي عام 1990.
ضمن هذا السياق، فإنّ تخصيص نسبة من مبلغ مليار دولار الذي وُضع تحت تصرّف “الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي من أجل التضامن والتنمية” لإقامة مشاريع تنموية في الأقاليم المالية الشمالية، مثلما صرّح الرئيس الجزائري في لقائه مع الصحافة في 24 شباط/فبراير الماضي، يندرج ضمن هذا الالتزام الجزائري نحو مالي، أخلاقياً وتاريخياً.
غير أنّ خلف هذه اليقظة الاستراتيجية في التعاطي مع انعطافات الأزمة المالية نجد مسوّغات أمنية واستراتيجية خاصّة بالجزائر. أوّل هذه الدوافع هو عمق أواصر التبعية الأمنية التي تربط الجزائر بأقاليم شمالي مالي، والتي نشأت عن الرابط الجغرافي المباشر بينهما (1400 كلم طول الحدود بين مالي والجزائر). هذه التبعية، التي تعضدها أواصر الارتباط الإثنية بين طوارق الجزائر وطوارق مالي وحركـيّتهم عبر حدود البلدين، تفاقم شواغل الجزائر الأمنية وتزيد في حدّة هواجسها في هذه الظرفية التي تبذل خلالها أقصى جهودها لتجنّب كل انتكاسة أمنية قد تعقد عليها مهمة حماية أمنها وأمن حدودها أكثر مما هي معقـّدة.
أخيراً، فإنّ التوجّس المضاعف للجزائر إزاء كل ما قد يهوي بمالي مجدّداً في مستنقع الاقتتال، أو يُحيي المطالب الانفصالية لدى الطوارق، تبرّرها تخوفاتها من انبثاق سياقات تسمح بتدخّل الفواعل المعادية للجزائر والمتربّصة بها في المنطقة، سواء كانت هذه الفواعل دولاً أو كيانات من غير الدول. لذا، فإنّ تبني هذه الدبلوماسية الاستباقية المبادِرة، والعمل على احتواء الوضع، وإيجاد الحلول قبل وقوع الأزمات، هي أمرٌ في جزء منه إيصاد لسبل التدخّل التي قد تُتخذ مداخل للتشويش على الجزائر.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين