* د. حسن أحمد حسن
كَثُرَت التحليلات والتوقعات، وحتى التكهنات الممزوجة بالرغبات والأماني بخصوص ما جرى في دير الزور وريفها من قتال بين “قسد” ومن يدعمها من جهة، وبين مجلس دير الزور العسكري ومن وقف معه من العشائر والقبائل العربية من جهة مقابلة، ونظرا لتداخل خيوط اللوحة وكثرة المتناقضات التي تحكم كل مكون من مكوناتها فإن استيعاب الدلالات يتطلب تعاملاً غير تقليدي في التحليل الموضوعي للوصول إلى فهم الحقيقة، أو ما هو أقرب إلى الواقع الفعلي، وتحديد العوامل المؤثرة فيه تجنباً لاستمرارية الدوران في حلقة مفرغة، جراء تناقض تلك المكونات والمحددات ومفرزات كل منها، وبغض النظر عن أن المعالم النهائية لما يحدث لما تتبلور بعد، إلا أنه يمكن التوقف عند أهم الجوانب الفاعلة التي قد تساعد على التوضيح، ومنها:
• تفادي الوقوع بخطأ ربط كلمة “قسد” بالمكون الكردي، فبعض “قسد” من الأكراد، وبعضها الآخر ليس كذلك، ونسبة كبيرة من الأكراد السوريين يرفضون ما تنادي به “قسد” التي لا يتجاوز عدد أفرادها ما نسبته 20 إلى 30%، لكن وعلى الرغم من قلة أعداد من يشكلون هذه النسبة قياسا ببقية السكان والمواطنين إلا أنهم المتحكمون بمفاصل حياة الناس وشؤونهم في كامل الجزيرة السورية.
• النسبة المتبقية في بنية “قسد” العسكرية 70 ـ 80% هي من أبناء العشائر والقبائل العربية الذين تعرضوا للكثير من الضغوط والأخطار والتهديدات التي أدت إلى الوضع القائم، والسكوت على تمدد “قسد” وفرض سيطرتها بإشراف القوات الأمريكية وتحالفها الاحتلالي، ومن المهم التذكير بأن البدايات الأولى لانخراط أولئك في هيكيلية قسد تعود لمواجهة خطر “داعش” الذي كان يهدد الجميع دونما استثناء، ولم تكن النزعة الانفصالية تراود أياً منهم في يوم من الأيام، إلا أن تطور الأحداث وارتباط قسد بالأمريكي بشكل مباشر جعل الغالبية تساير توجه البوصلة الأمريكية لأسباب متعددة لا مجال لذكرها الآن.
• العشائر العربية التي تواجه اليوم “قسد” ليست جميعها منضوية في قوام ما يسمى “مجلس دير العسكري” الذي تسبب بانطلاق شرارة الاقتتال عندما قامت “قسد” باستدعاء رئيس ذاك المجلس” أحمد الخبيل” واعتقلته، مع العلم إن مجلس دير الزور العسكري بكليته أحد مكونات قسد التي تتحكم به وبسلوكياته، وهو ملزم تنظيمياً بتنفيذ ما تصدره من أوامر وتعليمات.
• اقتتال مكونين من المكونات الأساسية التي تدور في الفلك الأمريكي يطرح أكثر من تساؤل، فمن غير المفهوم بالعقل العلمي التحليلي الذي ينظر إلى الأمور بأسبابها وتداعياتها ونتائجها التسليم بقدرة “قسد” على استدعاء أحمد الخبيل رئيس مجلس دير الزور العسكري واعتقاله من دون ضوء أخضر وإذن مسبق أمريكي، هذا إن لم يكن تنفيذاً لأمر عمليات أمريكي، وفي الوقت ذاته لا يمكن الاقتناع بأن بعض أبناء العشائر والقبائل التي تعمل وفق توجيهات الأمريكي قادرون على البدء بقتال قسد بدون رضا أمريكي.
• ليست “قسد” أكثر من مجلس دير الزور العسكري تبعية وانقياداً لقوات التحالف بزعامة واشنطن، والطرفان يتنافسان في تقديم فروض الولاء والطاعة، والحرص على التقيد الحرفي بكل ما يصدر من أوامر وتعليمات وفق رؤية الأمريكي المحتل المتناقضة بالضرورة مع إرادة أبناء المنطقة وكرامتهم ومصالحهم.
• بعض أبناء القبائل والعشائر ينضوون فعلاً تحت الجناح الأمريكي، وبعضهم الآخر ليس كذلك على الإطلاق، أي أن نسبة لا يستهان بها من أبناء العشائر والقبائل لا تنتظر التوجيهات من قوات التحالف الأمريكي للبدء بالفعل والتحرك ضد قسد أو غيرها، وهؤلاء لا يرغبون بالمظلة الأمريكية، بل يعلنون أنهم من أنصار مقاومة الاحتلال بكل مسمياته أينما وجد على الجغرافيا السورية.
• بدء الصدام والصراع بشكل مباشر وإن كان بين مجلس دير الزور العسكري وقيادة قوات قسد، إلا أنه امتد ليشمل بقية القبائل، فلماذا؟.. الجواب لأن الظلم والعسف والتطاول والإزعاج والإساءات التي تقوم بها قسد ازدادت وألحقت الأذى بالجميع، وكانت كالنار في الجمار، فما أن حركت الرياح الرماد المتراكم حتى انطلقت هذه الهبة العشائرية العربية في مواجهة قسد المرتبطة بالاحتلال الأمريكي.
• عندما نتحدث عن تحكم فئة قليلة بأبناء العشائر والقبائل في الجزيرة السورية يصبح من المهم فهم مكونات الشخصية الفردية والمجتمعية لدى أولئك المعروفين بحرصهم على التمسك بمقومات العزة والكرامة واحترام النفس والآخر، وعدم السماح بالتطاول على الكرامات، وهذه المواصفات تتناقض ونموذج الحياة القائمة في ظل سيطرة قسد، وتماديها في التطاول على الجميع، فعندما تأتي دورية من “قسد” تدخل البيوت، وتأخذ الشبان عنوة لإرغامهم على الالتحاق بالتجنيد الإلزامي، فضلاً عن تهميش الجميع، والتطاول على هيبة الشيوخ والوجهاء، وسرقة الموارد والثروات وحرمان أبناء المنطقة من مقومات العيش ببعض كرامة، ولا يمكن لمثل هذه الظواهر والأعمال أن تستمر مع طبيعة التفكير القبلي والعشائري للمواطن العربي السوري المتجذر في تلك المنطقة.
• قد تكون القطبة المخفية التي تساعد على تفكيك الصورة وتوضيحها مرتبطة بالمكون الأساسي الذي سئم طبيعة القيم الحياتية المفروضة، وضاق ذرعاً بواقع يرفضه بالفطرة، ويعيشه بالإكراه، وهؤلاء هم أبناء العشائر القبائل العربية السورية الذين يمكن أن يُعَوَّلَ عليهم، ويُبْنَى على ما يمكن أن يفعلوه وما قد يستطيعون فعله في القادم من الأيام، والمقصود هنا بقية القبائل والعشائر العربية التي انخرطت في هذا الصراع، وهي غير راضية عن تحكم قسد بمفاصل الحياة، وغير مرتبطة بالاحتلال الأمريكي ، وليست راغبة ولا راضية ببقاء هذا الاحتلال.
• المكون العشائري والقبلي السوري له امتداداته التي تتجاوز الجغرافيا السورية، فبعض هذه القبائل ترتبط بروابط الدم والقربى مع أبناء عمومة في العراق، وبعضها يصل إلى منطقة الخليج في السعودية والكويت والإمارات وقطر وغيرها، ولا أحد يستطيع إنكار تأثير المال الخليجي في السنوات السابقة، وقطر ما تزال على مواقفها المعلنة، ولا تخفي دعمها لكل ما يهدد الأمن الوطني السوري، كما أن بعض تلك العشائر والقبائل على تواصل مع السلطات التركية بشكل مباشر، وبالتالي لا يمكن النظر إلى استعار حدة الاشتباك بعيداً عن عوامل التأثير الخارجية التي قد تلعب دوراً في ازدياد الوضع تأزماً، و هي قادرة في الوقت نفسه على الاضطلاع بدور فاعل في التهدئة والتخفيف من حدة الاحتقان والتوتر وتوجيهه بما يخدم مصالح أبناء المنطقة لا مصالح قوى الاحتلال وسرقة الثروات، وهذا ما يجب العمل عليه، وقد يكون من الممكن والمفيد الاستثمار في الأجواء الإيجابية التي يفرزها تحسن العلاقات الإيرانية ـ السعودية.
• الحديث عن مشروع أمريكي لإخضاع المنطقة وتشكيل جسم عسكري باسم جيش القبائل أو جيش العشائر أو أي مسمى آخر يحمل الصبغة العربية أكثر من خطير، لأن وجود جسم عسكري في هذه المنطقة تحت إشراف قوات التحالف التي تقودها أمريكا يعني انتشار الأخطار والتهديدات على جانبي الحدود السورية العراقية بآنٍ معاً، وكل ذلك لا يعني التسليم بقدرة واشنطن على خلق مثل هذا الواقع المفترض، فلو كانت قادرة على تحمل التكلفة لما ترددت لحظة واحدة، ولفعلت ذلك منذ سنوات.
• لا يمكن أن نرفع عن طاولة النقاش موضوع المحاولات الأمريكية لإضعاف الطرفين ليكونا معاً أكثر انبطاحاً وتبعية وانقياداً للتوجيهات الأمريكية، وكلٌ منهما يسعى لكسب الرضا الأمريكي يقيناً بأن من يفوز بذلك يصبح المُسَيَّد في تلك المنطقة، وبالتالي الصراع في بعض أوجهه هو تنافس على الدور المأمول الذي يمكن أن تمنحه واشنطن لهذا الطرف أو ذاك، فضلاً عن أن إبقاء المنطقة مضطربة وبعيدة عن الأمن والاستقرار هدف أمريكي يساعد على استمرارية الذريعة الممجوجة لبقاء قوات التحالف الأمريكي أطول فترة ممكنة.
• توقيت التصعيد قبيل زيارة أردوغان لسوتشي ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يجوز تجاهله في تحليل ما يحدث، ومن المعروف لدى كل مهتم ومتابع لتطور الأحداث وتداعياتها أنه في كل مرة يكون لأردوغان حراك على مثل هذا المستوى يكون هناك نوع من التصعيد الميداني، وهنا يمكن فهم ما حدث تحت عنوان ” الفزعة” العشائرية والقبلية لدير الزور في صفوف المسلحين الخاضعين للسيطرة التركية بشكل مباشر سواء ما أسموه “الجيش الوطني” أو هيئة تحرير الشام، أو الحزب التركستاني، أو بقية المسميات الأخرى، والتصعيد الميداني بمنحيين: الأول يتعلق باستهداف مناطق الجيش العربي السوري ومناطق انتشاره والسكان المدنيين في تلك الناطق، والثاني التحشيد والتحرك والاقتراب على اتجاه منبج، و لا يستبعد أن يكون أردوغان أراد استباق لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بورقة رابحة لكنه أخفق في الحصول عليها، كما لا يستبعد أن يكون ذلك رسالة أمريكية لطمأنة أردوغان قبل لقائه ببوتين كيلا يذهب بعيداً أو سريعاً باتجاه المحور الأوراسي، أو كيلا يسرع في الخروج من تحت العباءة الأمريكية.
• من النقاط المهمة التي يجدر التوقف عندها أيضاً مرتبطة بالتساؤل المشروع: هل يمكن فهم ما جرى على أنه تفعيل للمقاومة الشعبية التي يراهن على دورها السوريون وحلفاؤهم في الحرب ضد الإرهاب؟ وقد سبق للسيد وزير الخارجية د.فيصل المقداد من فترة قريبة أن تحدث عن ذلك، مشدداً على ضرورة خروج قوات التحالف الذي تقوده أمريكا من المناطق التي تحتلها في الجغرافيا السورية قبل أن ترغم على ذلك، كما سبق للناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية أن أطلق تصريحات مشابهة، وقد تحمل الأيام القادمة ما يرجح بعض تلك الاحتمالات المذكورة على غيره.
خلاصة:
التصعيد الميداني الذي شهدته دير الزور وما حولها جزء من الاشتباك المزمن والتصعيد المتعمد في الجنوب والشمال والشمال الغربي من سورية، وهو يشكل تحدياً جدياً قائماً، فإما أن تحوله سورية وحلفاؤها إلى فرص يبنى عليها، وتمهد لخروج القوات المحتلة من الجغرافيا السورية، وإما أن تحوله واشنطن وحلفاؤها وأدواتها التنفيذية إلى تهديدات ومخاطر، وهنا يبرز السؤال الأهم والمشروع، فلنفترض أن العشائر والقبائل حزمت أمرها وقالت: “لا” لـ”قسد”، و”لا” لـ”قوات الاحتلال” التي تدعمها، وحتى لو استطاع أبناء العشائر والقبائل أن يطردوا “قسد” من المنطقة، فماذا بعد؟ ..هل ستسمح أمريكا لمن قاموا بتحرير المنطقة مرتين مرة من “داعش” والإرهاب الذي صنعته أمريكا، ومرة من أذناب أمريكا أن يترجموا انتماءهم الوطني الذي يعتزون به، ويقوموا بدعوة الجيش العربي السوري للانتشار في المنطقة، وتسليم مقاليد الأمور فيها لمؤسسات الدولة السورية؟.. هذا ما يجب التفكير به والاشتغال عليه، وهو ليس مستحيلاً، وإن كان محفوفاً بالمخاطر، فقد تعمد واشنطن إلى تصعيد جزئي مضبوط الإيقاع كيلا يتم الوصول إلى مرحلة إعادة انتشار الجيش العربي السوري في منطقة الجزيرة السورية، ومن المستبعد تحقيق ذلك ما لم ترتفع التكلفة المباشرة الكفيلة بإرغام أمريكا على القبول بالحقائق التي بدأت تتبلور على أرض الواقع.
(*) لواء متقاعد – باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الإستراتيجية.
(سيرياهوم نيوز ١-العهد)