الحجّ الروسي تجاه الجزائر عليه أن يُراعي المتغير الأميركي في المعادلة، ذلك بأن نظرية الدومينو حاضرة، ولم تغب العلاقات الروسية الجزائرية عن التقدير الأميركي.
تحتاج الجزائر، في محددات علاقاتها الإقليمية والدولية، إلى الاقتراب خطوة مقابلة من روسيا.
تحتاج الجزائر، في محددات علاقاتها الإقليمية والدولية، إلى الاقتراب خطوة مقابلة من روسيا.
تطلعات الدول الكبرى المؤثرة في النظام الدولي لا تتوقف عند منطقة جغرافية بعينها، ولا تتأثر بحدوث متغيِّر حتى إن كان تغيير نظام إقليمي ما.
وتحرك روسيا تجاه تعدد الحلفاء وتنوّعهم، سياسياً وجغرافياً، لا يخرج عن هذا السياق، ولاسيما في القارة الأفريقية على امتداد اتجاهاتها الأربعة. فحركة روسيا هناك لا تبدو قفزةً في الهواء بقدر ما هي استراتيجيا عابرة للجغرافيا وخطوات محسوبة سلفاً، مستحضرة كل الاحتمالات والسيناريوهات والمتغيرات التي قد تؤثر في حضورها في أفريقيا.
لا يمكن لأي قوة دولية تريد التحرك في أفريقيا أن تغفل وتغفى عن قراءة مواقف بعض الدول الإقليمية المؤثرة وذات الحضور، ولاسيما إذا كان التحرك عند حدود هذه الدولة. هذا ما فعلته روسيا تجاه الجزائر في تحركاتها في مالي مثلاً، ومؤخراً في ليبيا، عقب تغيير النظام في سوريا، وبدء تشكل سيناريو انتقال القواعد الروسية من سوريا إلى ليبيا.
تفسير المحددات الروسية، تجاه استراتيجية تنوع الحلفاء واسترضائهم واستطلاع مواقفهم، تجلّى في الحجّ الروسي إلى الجزائر، ونقل العلاقة من الفتور الطارئ إلى الدفء القديم.
وهذا ما عبرت عنه زيارة كل من نائب وزير الخارجية والممثل الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، ونائب وزير الدفاع الروسي، إيونوس بيك أيفيكوروف، للجزائر في 21 كانون الأول/ديسمبر 2024. ووصف بوغدانوف علاقات بلاده بالجزائر، عقب لقائه كلاً من الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، ورئيس أركان الجيش الجزائري، الفريق أول السعيد شنقريحة، بالجيدة، وفي مستوى استراتيجي.
وكشف بوغدانوف أن اللقاء، بالإضافة إلى مناقشة العلاقات الثنائية بين البلدين، بحث في أحوال المنطقة ومتغيراتها ومنطقة الساحل وتبادل الرؤى والنصائح، مشيراً إلى استعداد بلاده لمواصلة اللقاءات والتعاون مع الجزائر، بما في ذلك النقاش السياسي.
صحيح أن سياق الزيارة الروسية للجزائر جاء بعد ظهور مؤشرات توتر غير معلن، خلال الأشهر الماضية، على خلفية وجود قوات فاغنر الروسية ونشاطها في مالي، لكن مخرجات اللقاء ومحددات العلاقة تتجاوز الحدث الطارئ، وتقف عند محددات متعددة، لها علاقة بمجموعة متغيرات تشهدها المنطقة ويشهدها النظام العالمي، ولاسيما عقب عودة دونالد ترامب إلى البيت الابيض.
تاريخياً، منذ حقبة الاتحاد السوفياتي، ظلت سمة التحالف الاستراتيجي العميق هي الغالبة على العلاقات الروسية الجزائرية. وفي التوصيف، ترى الجزائر أن روسيا حليف موثوق به. وعسكرياً، فإن 80% من ترسانة الجزائر العسكرية مصدرها روسيا. حتى في حالات الفتور الطارئ، حرصت الجزائر على إبقاء التوصيف التاريخي للعلاقة.
في الـ6 من تشرين الأول/أكتوبر 2024، قال الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في تصريحاته للتلفزيون الجزائري، إن العلاقة بروسيا تاريخية ومبنية على الصداقة والمصالح المشتركة. وقال إن “العلاقات بين الجزائر وموسكو تاريخية، لقد ساعدنا الروس في الثورة التحريرية، ولن ننسى جميلهم”. وأضاف أن العلاقات “مبنية على الصداقة والمصالح المشتركة، ولا يمكن أبداً أن يأتي أيّ أذى لروسيا من طرف الجزائر”.
دلالات توقيت زيارة بوغدانوف للجزائر تأتي في سياق المتغيرات الجارية في المنطقتين العربية والأفريقية، ومن الواضح أن روسيا تستدير لتجاوز تلك المتغيرات في علاقتها وحضورها، عربياً وأفريقياً. ومن مقتضيات هذا التجاوز الاقتراب إلى الجزائر خطوة إضافية. وبالتالي، فإن التحرك من سوريا في اتجاه ليبيا يقتضي استطلاع الجزائر واطّلاعها على الحيثيات.
في المقابل، تحتاج الجزائر، في محددات علاقاتها الإقليمية والدولية، إلى الاقتراب خطوة مقابلة من روسيا، وهذا يعني أن المصالح مشتركة وتتقاطع، شريطة أن تكون متوافقة. كل ذلك من دون إغفال سائر المتغيرات، كالحرب الروسية الأوكرانية، والحرب على غزة، والتوترات التي تشهدها منطقة الساحل الأفريقي. وكلها متغيرات تتقاطع فيها رؤية روسيا مع رؤية الجزائر.
يذهب بعض التقديرات إلى أن متغير تحريك القواعد العسكرية الروسية من سوريا إلى ليبيا لا يشكّل تهديداً روسياً للجزائر، ولا للعلاقات التاريخية والاستراتيجية والوثيقة بينهما، لكن قطعاً لا يمكن استبعاد الجزائر عن أي ترتيبات في ليبيا، ولاسيما أن محددات السياسة الخارجية الجزائرية تعتمد مبدأ التعاون والتحاور ورفض التدخلات العسكرية. ورفضت عدة مرات أن يكون هناك قواد عسكرية في ترابها، أو في تونس، أو مالي، وحتى في ليبيا، وترى أن وجود هذه القواعد العسكرية يُعَدّ مدخلاً للتدخلات العسكرية الدولية، ونواة انتشار عسكري أجنبي.
وعليه، فإن أي تحرك عسكري روسي في ليبيا، إذا لم يكن مدروساً ويراعي التكوينات الداخلية في ليبيا، فقد يصبح عامل عدم استقرار في ليبيا، ويمتدّ إلى الجزائر ودول الجوار.
وهذا ما اقتضى من روسيا التنسيق مع الجزائر، ويُعَدّ إحدى أهم دلالات الحجّ الروسي وظروف توقيته، تجنباً لتكرار تجربة التحرك العسكري الروسي بواسطة فاغنر في مالي، واقترابه من حدود الجزائر، ومن أجل إقناع الجزائر بتغيير موقفها تجاه نقل القواعد العسكرية الروسية من سوريا إلى ليبيا، ولاسيما أن روسيا لن تتنازل عن وجودها في ليبيا، ولا عن الوصول إلى مياه المتوسط.
يُتوقَّع أن ينعكس تنسيق المواقف الروسية الجزائرية تجاه تحريك المياه الراكدة في الأزمة الليبية، وبالتالي يُفترض أن يُفضي إلى تسوية الخلافات بين الفرقاء والذهاب إلى انتخابات عامة. وهذه مصلحة روسية جزائرية مشتركة. ومن دون تلك النتيجة، فإن التموضع العسكري الروسي الجديد في ليبيا سيكون محفوفاً بالمخاطر، وقد يتكرر السيناريو السوري.
مسار العلاقات الروسية الجزائرية، إن بدا متقارباً ومتحالفاً وتعززه الزيارات المتبادلة وآليات التواصل المشتركة واللجان الثنائية، إلا أن هناك محددات خارجية، إقليمية ودولية، يجب استحضارها عند فهم ظروف توقيت الحجّ الروسي إلى الجزائر وسياقه، والتنبؤ بمستقبله وسيناريوهاته.
وبالتالي، فإن التعارض بين المحددات الروسية الجزائرية في العلاقات وفي الحسابات وفي المواقف وراد. ففي ليبيا، مثلاً، نجد أنه بينما تدعم روسيا المشير خليفة حفتر، في المقابل تحرص الجزائر على علاقة وثيقة بحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، وبرئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، وتبدي قلقاً كبيراً من نشاط اللواء المتقاعد خليفة حفتر منذ أعوام. وازداد التوتر في الفترة الأخيرة بعد وصول قواته إلى حدودها الشرقية، وهو ما تنظر إليه الجزائر على أنه تهديد لأمنها القومي، وخصوصاً أن إنشاء قواعد عكسية روسية في ليبيا قد يعزز النفوذ والقوة لخليفة حفتر، الذي تربطه علاقة قوية بروسيا.
الحجّ الروسي تجاه الجزائر عليه أن يُراعي المتغير الأميركي في المعادلة، ذلك بأن نظرية الدومينو حاضرة، ولم تغب العلاقات الروسية الجزائرية عن التقدير الأميركي.
وفي بداية الحرب الروسية الأوكرانية، استحضرت تلك العلاقات، وهناك من نواب الكونغرس مَن طالب بفرض عقوبات على الجزائر بسبب شرائها السلاح الروسي، وادعى أن ذلك يدعم تمويل روسيا في الحرب. وفي الـ23 من تموز/يوليو 2024، ما إن غادر رئيس مجلس الدوما الروسي الجزائر، بعد زيارة عرض فيها تطوير العلاقات بين البلدين، حتى حلّ قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) في الجزائر.
توقيت الحجّ الروسي إلى الجزائر محكوم بالمتغيرات الجارية والضابطة لمحددات كِلا البلدين. وبالتالي، إذا اتفق الطرفين على مراعاة المصالح المتبادلة، كأن تدعم روسيا الجزائر في دخول بريكس، وتغض الجزائر الطرف عن إقامة قواعد عسكرية روسية في ليبيا، مع طمأنة الرباط إقليمياً، وواشنطن دولياً، إلى أن ما يحدث تبادل مصالح، وليس استقواءً وحلفاً جديداً، فإن ذلك سيفضي إلى أريحية التحركات الروسية في عموم أفريقيا، ودور إقليمي للجزائر يجعلها دولة قائدة في الإقليم.
أخبار سورية الوطن١ الميادين