بقلم :د. حسن أحمد حسن
عندما يطوي السوريون تحت أقدامهم ثلاثة عشر عاماً من أقذر حرب عرفتها البشرية، ويفلحون في الحفاظ على كيان الدولة الوطن بمكوناته الأساسية: الشعب والأرض والقيادة، فهذا لا يعني قط أن أخطار الحرب وتداعياتها قد أصبحت وراء الظهر، بل يعني اشتداد الغضب والحقد لدى من خطط لهذه الحرب وتابع فصولها وتداعياتها، ومحاولة تصحيح بوصلة الدمار واشتداد الضغوط وتنوعها لتحقيق الأهداف بطرق أخرى بعد أن عجز الإرهاب التكفيري المسلح وكل داعميه من تنفيذ مآربهم الشريرة ـــ بغض النظر عن حجم التضحيات، ووجود أجزاء من الجغرافيا السيادة ما تزال خارج السيطرة المباشرة للدولة ـــ ومن السذاجة الاطمئنان التام إلى تعثر المشروع الصهيو ـــ أمريكي في العديد من جبهات الاشتباك التي لما تحسم بعد، أو الركون إلى أن ما تم إنجازه كفيل بتعميم حالة من الرضا عن الذات، فهنا يكمن كعب آخيل الذي لا يحق لأي وطني أن يتقاعس في الحيلولة دون وصول الأعداء إليه، مهما يكن الجهد المطلوب بذله عبر العمل الفردي والمؤسساتي من دون انتظار دعوة لاستنفار الجهود، فهذا واجب وطني وأخلاقي وإنساني مقدس، فضلاً عن كونه واجباً شخصيا وفرض عين على كل من يستطيعه، فالعجز عن تشظية الدولة السورية يدفع بكل من كان طرفاً مباشراً في هذه الحرب المفروضة إلى التفتيش عن أساليب جديدة، والإمعان ما أمكن في الانتقام بكل السبل الممكنة وبخاصة أن الصمود الإعجازي السوري خلق البيئة الأنسب، وكان الرحم الحاضنة بكل ما تعنيه كلمة الرحم لتفعيل قدرات الحركات المقاومة الأخرى لكل أشكال التبعية والخضوع والاستسلام، وهذا بدوره ساهم في تعميم جو من التفاؤل إقليمياً ودولياً في إمكانية تخفيف وطأة التوحش الصهيو أمريكي إقليمياً ودولياً، وما تشهده غزة العزة منذ السابع من تشرين الأول 2023م. حتى اليوم خير شاهد على صحة ذلك، وهنا تتجلى خطورة التلاعب بالوعي المجتمعي والعمل على اختراقه وكيّه، وهو أخطر فصول الحرب وأشدها فتكاً بالمجتمع وبنيته.
عندما نتحدث عن الحرب على الوعي المجتمعي تبرز أهمية النخب الفكرية والثقافية والمجتمعية التي لا يقل دورها أهمية عن الدور الحكومي الرسمي، وبخاصة في ظل حمى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة التي دخلت غرف النوم والأسرَّة دونما استئذان، ولا يحتاج المدقق المتابع والمهتم إلى كبير جهد ليلاحظ تسرب العديد من المصطلحات والسلوكيات التي تحتوي على قدر كبير من المخدر المؤقت أو الدائم لضمان تنفيذ الاختراق المطلوب، ويكفي أن نستذكر هنا مصطلح “الواقعية السياسية” الذي كثر استخدامه في الفترة الأخيرة مع دعوة ظاهرة للتخلي عن الثوابت والمبادئ بذريعة أن تطور الأحداث وتداعياتها يفرض على كل عاقل أخذ المتغيرات بالحسبان، مع تمرير أفكار مسمومة مضمونها يصب في خانة أن الكيان الصهيوني مدعوم من أمريكا، وأمريكا لا طاقة لأحد بمواجهتها، أي العودة إلى أن الإرادة الأمريكية قدر يجب التسليم بدوام سيطرته، وعدم إغضابه، وهذا يعني القبول بإعطاء أمريكا وأتباعها طواعية ما عجزت جيوشهم عن بلوغه عبر عقود، ومن المهم أن نشير هنا إلى أن الواقعية السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، أو أي نوع آخر يقوم على ثنائية لا تستقيم إلا بطرفين اثنين: عوامل قوة وضعف العدو، وعوامل القوة والضعف الذاتية، والمشكلة التي يخفيها أنصار الواقعية السياسية الجديدة بسيطة ولا تحتاج إلى بذل الكثير من الجهود عبر التركيز على قوة الطرف الآخر أو المحور المعادي من دون الإشارة إلى أي من عوامل الضعف، وبالمقابل الاكتفاء بتعداد عوامل ضعفنا من دون الإشارة إلى أي عامل قوة، وبالتالي تفنيد تلك الأقوال والجهود الخبيثة ممكن ومتاح للجميع .
الأمر الآخر الملاحظ وبوضوح تلك الجهود الحثيثة والعمل الممنهج بمنتهى الخبث لتسويق فكرة قبول التطبيع والدعوة للتخلي عن “الخطاب الخشبي” الذي أكل الزمان وشرب، وهناك العديد من الأساليب والأشكال التي تستخدم لتحقيق الهدف، ومنها تأمين ظهور هذا المطبع أو ذاك على الشاشات وعبر وسائل التواصل المختلفة، وإسدال الستار على كل خطواته التطبيعية لتأمين قبوله في الوعي المجتمعي، أو عبر ظهور بعض المثقفين عبر الشاشات مع مطبعين، أو مع صهاينة، وهنا الطامة الكبرى التي تعمل الليبرالية الجديدة المتوحشة على جعلها جزءاً من تفكير المجتمع وأبنائه، ويخطئ من يتوهم أن التذرع بسوء التقدير أو عدم الانتباه إلى خطورة ذلك يمنح هذا المثقف أو ذاك صك براءة، حتى وإن كانت نيته سليمة وصافية، فلا أحد يملك ترف المقامرة بإمكانية إلحاق الهزيمة بالعدو عبر مقارعة الحجة بالحجة، لأن مجرد الظهور مع أولئك يعني منحهم حسن سلوك وقبول أولي بإجرامهم، وهذا حق حصري للشعوب والأوطان وليس للأفراد، ولا يحق لأي مثقف أو غيره أن يجعل هذا الحق شخصيا، فدماء آلاف الشهداء، وما عاناه أبناء الوطن جميعاً على امتداد سنوات الحرب المفروضة لا يحق لأي في الكون المساس به، أو تشويه معالمه تحت أي عنوان كان.
الأخطار التي تستهدف الأفراد والأسرة والمجتمع أكبر مما قد يخطر على الذهن، ومواجهتها تتطلب تضافر جهود الجميع، وليس بشكل فردي لا يمكن أن تكون نهايته إلا في خدمة الأعداء ضد الوطن، وهذا ما لا يقبل به وطني شريف قط.
(موقع سيرياهوم نيوز)