حسني محلي
القضية الفلسطينية، ومقصود بها الآن الوضع في غزة، يراد لها أن تساهم في ترسيخ الواقع المفروض على ما تعيشه سوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال ودول أخرى بنسب متفاوتة.
بانشغال الجميع إقليمياً ودولياً بتطورات الوضع في غزة وما ستؤول إليه هذه التطورات بعد تمديد الهدنة وتبادل الأسرى الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين، لم يعد أحد يتحدث عن الوضع في سوريا والعراق وليبيا واليمن وباقي دول المنطقة التي كانت تحظى باهتمام مباشر أو غير مباشر من المهتمين بالحرب في غزة إقليمياً ودولياً.
وإذا تجاهلنا العداء بين الرئيس السيسي حليف السعودية والإمارات والأمير القطري تميم آل ثاني حتى العام الماضي، فلا بد لنا من أن نكون أكثر حذراً ويقظة حيال كل المفاجآت، لما للسيسي وتميم آل ثاني من علاقات تحالف متشابكة مع واشنطن و”تل أبيب”، على الرغم من تحالف الدوحة مع حماس الإخوانية وعداء القاهرة لها لأنها إخوانية.
وعلينا أن نكون أكثر حذراً ويقظة ما دام الطرف الآخر والأهم في هذه التطورات هو واشنطن؛ الحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني في السراء والضراء. يعرف الجميع أن هذا الكيان كان إرهابياً منذ قيامه، وسيبقى كذلك إلى الأبد، وهو يستمد قوته من تواطؤ الأنظمة العربية والإسلامية ودعم الدول والقوى الإمبريالية والاستعمارية التي تجاهلت معاً العدوان الإرهابي الهمجي على غزة والضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
مع تمديد الهدنة، سيخلي الكيان الصهيوني سبيل 200 فلسطيني موجودين في سجونه منذ سنوات طويلة (وقد يعتقلهم في أي لحظة)، إلا أنه اعتقل خلال 50 يوماً ماضية أكثر من 3 آلاف فلسطيني، بعدما قتل ما لا يقل عن 220 منهم خلال الفترة نفسها في الضفة الغربية.
وإن تجاهلنا الثمن الغالي والفادح الذي دفعه الشعب الفلسطيني في غزة في مقابل الانتصار العسكري والمعنوي والنفسي، فالجميع يعرف أننا من دون تتويج هذا الانتصار بانتصارات سياسية كبيرة سوف نعود جميعاً إلى نقطة الصفر في القضية الفلسطينية التي ما زال العديد من الأنظمة العربية والإسلامية يتآمر عليها، بما فيها “دولة” محمود عباس الفلسطينية، في السر والعلن، وبشكل مباشر أو غير مباشر؛ فاستمرار الوضع في سوريا، وسببه هذه الأنظمة، لا يخدم سوى حسابات الكيان الصهيوني الذي حقق الكثير من المكاسب من تدمير هذا البلد العربي خلال ما يسمى بـ”الربيع العربي” الذي ما زالت تبعاته مستمرة.
ولم تنفذ هذه الأنظمة أي خطوة عملية على طريق إصلاح ما خربته، على الرغم من “ضوئها الأخضر” لمشاركة الرئيس الأسد في القمة العربية الأخيرة في الرياض بعد سلسلة من الإشارات “الخبيثة” التي أطلقتها هذه الأنظمة من أجل المصالحة مع دمشق، وهو ما لم تقدم عليه بذريعة علاقاتها بحزب الله ونجاحه في تحقيق المصالحة بين حماس وسوريا.
وقد أزعج ذلك الأنظمة المذكورة، ولكن من دون أن يمنعها من التنسيق والتعاون للاستمرار في نهجها التقليدي المتواطئ على الرغم من خلافاتها ومنافساتها وعداءاتها المعروفة فيما بينها.
على سبيل المثال، إن العدوين التقليديين منذ انقلاب السيسي في حزيران/يونيو 2013، أي الدوحة والقاهرة، لم تترددا في القيام بعمل مشترك لإقناع حماس والكيان الصهيوني بالهدنة، وبدعم أميركي، في الوقت الذي تستمر قطر في دعمها المطلق، السري منه والعلني، للجماعات الإسلامية، وأهمها الإخوان المسلمون، وتوابعها السياسية والمسلحة، ليس في سوريا فحسب، بل في ليبيا أيضاً، حيث الوجود التركي العسكري الكبير المدعوم من الرئيس إردوغان. وقد نجح بدوره هناك في تحدي كل الحسابات المصرية. هذا بالطبع إن لم يكن الرئيس السيسي قد تخلى عن خططه ومشاريعه الوطنية والقومية التي كانت مدعومة من النظامين السعودي والإماراتي، وهو “الدعم” الذي أوصل السودان إلى ما وصل إليه بسبب تناقضاته المعروفة التي يستغلها الكيان الصهيوني عبر علاقاته الوطيدة مع أطراف سودانية ومع كل من إثيوبيا وأريتريا وجيبوتي، وهي في الضفة الغربية من باب المندب الاستراتيجي.
ومع أن استمرار الوضع على ما هو عليه في ليبيا، والمستفيد منه هو أيضاً الكيان الصهيوني فقط، كما هي الحال في سوريا وأطراف الصراع فيها، في خدمة هذا الكيان، فقد جاء دخول اليمن على خط الصراع العربي مع الكيان الصهيوني ليضع الأنظمة المعروفة أمام امتحان أهم، فإذا كانت هذه الأنظمة صادقة في تبينها القضية الفلسطينية، وعلى الأقل إنسانياً، إن لم نقل قومياً ودينياً، فما عليها في هذه الحالة إلا أن تتفق مع صنعاء على الحد الأدنى للمصالحة الوطنية، ليتحول هذا البلد العظيم فوراً إلى ورقة ضغط رئيسية تكفي لإجبار الكيان الصهيوني ومن معه على وقف العدوان والشروع في مفاوضات جدية وسريعة للتوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية.
من دون ذلك، فإن استمرار العدوان السعودي – الإماراتي – الخليجي على اليمن، وبدعم إمبريالي – صهيوني، كما حدث للفترة 1962 – 1970، سيبقى في خدمة الكيان الصهيوني، الذي يبدو سعيداً بهذه الحرب، كما أنه سعيد باستمرار الوضع المعقد والصراعات العرقية والطائفية في العراق بقواعده الأميركية والتركية، لأنه مجاور لكل من إيران وسوريا ومنطقة الخليج الاستراتيجية للغرب بسبب البترول والغاز الطبيعي.
وكان الكيان الصهيوني، وما زال، مستفيداً من تعقيدات الوضع السياسي والأمني والعسكري في الصومال الذي تتصارع فيه معظم الأنظمة العربية والإسلامية لتحقيق مصالحها الضيقة، من دون أن تدرك أن هذا الصراع لا يستفيد منه سوى الكيان الصهيوني ما دام الصومال يطل على بحر العرب وقريباً من باب المندب الذي قد يكون سبباً لحرب إقليمية جديدة، كما كان إغلاق خليج العقبة في أيار/مايو 1967 أحد أسباب الحرب في حزيران/يونيو 1967.
باختصار، إن القضية الفلسطينية، ومقصود بها الآن الوضع في غزة، يراد لها أن تساهم في ترسيخ الواقع المفروض على ما تعيشه سوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال ودول أخرى بنسب متفاوتة، والسبب في ذلك هو سياسات الأنظمة المتواطئة، وهي نفسها التي سمحت للكيان الصهيوني بأن يدمر غزة ويقتل الآلاف من شعبها، وهي نفسها التي تحاول أن تساعد الكيان للخروج من أزمته على حساب القضية الفلسطينية برمتها، بعدما مني بهزيمته العسكرية والسياسية، والأهم النفسية داخلياً وعالمياً.
يبقى أكبر امتحان بالنسبة إلى أنظمة المنطقة أن تثبت أولاً لشعوبها، ومن ثم لشعوب المنطقة عموماً، والأهم الشعب الفلسطيني، كم هي صادقة أولاً في أحاديثها، وثانياً في مواقفها تجاه الوضع في غزة ودعم الشعب الفلسطيني عموماً من دون أي قيد أو شرط.
ويتطلب ذلك من الأنظمة العربية ومن معها، وبأسرع ما يمكن، وضع حد نهائي لحساباتها التافهة والخطيرة في سوريا وسد الطريق على كل الحسابات الإقليمية والدولية التي تهدف إلى تمزيق وحدة التراب السوري عبر المجموعات المسلحة والميليشيات الانفصالية المدعومة من أنقرة وواشنطن وحليفاتها الإقليمية والدولية.
ومن دون ذلك، لن يتسنى لأحد أن يثبت جديته ومصداقيته في دعم الشعب الفلسطيني أولاً، وليس قولاً، وإلا ما الذي تحدث عنه الرئيسان إردوغان ورئيسي في اتصالهما الهاتفي (الأحد) ما داما في خندقين متنافسين إن لم نقل معاديين في سوريا، بانعكاسات ذلك على العراق ولبنان وربما اليمن أيضاً! وهذا هو الحال في ليبيا بين إردوغان والسيسي اللذين يقال إنهما ينسقان فيما يتعلق بالتطورات الأخيرة في غزة، ولكن من دون اتخاذ أي عملي منهما لدعم حماس باستثناء فتح معبر رفح (بموافقة “تل أبيب”) ونقل بعض الجرحى الفلسطينيين إلى المستشفيات التركية والمصرية، وإلا، مهما قالت وفعلت هذه الأنظمة، وهو ما تفعله منذ عشرات السنين، سيبقى كل ذلك في إطار المراوغة الرخيصة التي ساعدت الكيان الصهيوني على تحقيق معظم أهدافه حتى الآن بفضل هذه المراوغات التي ارتقت كثيراً إلى مستوى التواطؤ والعمالة والخيانة، وبشكل خاص في سنوات ما يسمى بـ”الربيع العربي”.
تريد واشنطن لهذا “الربيع” أن يستمر بتجميد ملفات سوريا وليبيا والعراق واليمن والصومال والواقع العربي المتردي عموماً، حتى يتسنى لها ولمن معها إغلاق ملف فلسطين إلى الأبد، لأنها لن تنسى الدرس الذي لقنه الشعب الفلسطيني لها في غزة، وهو السبب في تآمر الجميع ضد هذا الشعب العظيم للتخلص منه نهائياً، وهذا ما لن يتحقق لها، لأن الدين والمنطق والعقل والتاريخ والجغرافيا مع هذا الشعب وكل من معه من الشرفاء المخلصين، وهزيمتهم من المستحيلات العشرين، كما قال الشاعر الفلسطيني توفيق زياد:
“أهون ألـف مرة
أن تدخلوا الفيل بثقب إبـرة
من أن تميتوا باضطهادكم وميض فكرة
وتحرفونا عن طريقنا الذي اخترناه
قيد شعرة
كأننا عشرون مستحيلاً
في اللد والرملة والجلـيل
هنا على صدوركم باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج كالصبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار
نجوع نعرى نتحدى
ننشد الأشعار
ونملأ الشوارع الغضاب بالتظاهرات
ونملأ السجون كبرياء
ونصنع الأطفال جيلاً ناقماً
وراء جيل
كأننا عشرون مستحيلاً
في اللد والرملة والجليل
إننا هنا باقون
فلتشربوا البحر
نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار كالخمير في العجين
برودة الجليد في أعصابنا
وفي قلوبنا جهنم حمراء
إذا عطشنا نعصر الصخر
ونأكل التراب إذا جعنا
ولا نرحل
وبالدم الزكي لا نبخل
هنا لنا ماضٍ
وحاضر
ومستقبل
كأننا عشرون مستحيلاً
في اللد والرملة والجليل”.
سيرياهوم نيوز1-الميادين