| عامر محسن
ما زال لدى هنري كيسينجر، وعمره يشارف على المئة عام، عقل ثاقب (وشرير). استمعت إليه مؤخّراً يتكلّم في محاضرة لمركز دراسات عن حرب أوكرانيا، وقد قال خلالها على الأقل فكرتين بالغتي الأهمية، بل قد تكونا من المفاتيح لفهم السياسة والعالم المتغيّر في السنين المقبلة. نظريّتي هي أنّ الناس اليوم لا تستمع إلى كيسينجر حين يتكلّم، بمن في ذلك الضيوف الذين يشاركوه المنبر، وهذا ما جعلهم لا يتفاعلون مع ما قاله على الرغم من إشكاليّته و»خطورته». بسبب سنّه، يتكلّم كيسينجر اليوم بغمغمة وجهد، فلا يمكنك فهم ما يقول من غير تركيزٍ شديد، وهو أيضاً يلقي أفكاره بصوتٍ خفيض ناظراً إلى الأسفل، كأنّه يحدّث نفسه (على طريقة إبراهيم الأمين). من هنا، يسارع الضيوف إلى تهنئته، بعد أن يختتم تعليقه، على قدرته ورجاحة عقله «في هذا السن»، من غير أن يكونوا قد فهموا شيئاً مما قاله.
على سبيل المثال، طرح المؤتمر فكرة التكنولوجيا الجديدة وآثارها، فسارع الضيوف إلى الكلام عن المواضيع المعتادة هنا: الذكاء الاصطناعي في الحروب، الأنظمة «الذكيّة» التي تسيّر المعركة من دون تدخّلٍ بشري، الدرونات متناهية الصغر، إلخ. غير أنّ كيسينجر تجاهل هذه الأمور بل وتفّهها فعلياً، موضحاً أنّ «التكنولوجيا» ومعناها الحقيقي هو ليس في «أدواتٍ» من هذا النوع. التقنيّة الجديدة تنتج سلعاً وأدوات نستخدمها في حياتنا اليومية أو تدخل في عمل المصانع والجيوش، ولكنّ إمكاناتها الحقيقية تكمن في الدور «السياسي» الذي يمكن أن تلعبه، أضاف كيسينجر. النخب الأميركية ترى التكنولوجيا كسلعة وتقنية، ولكنّها ليست واعية لاحتمالاتها السياسيّة، «على عكس النخب الحاكمة في الصين»، أضاف كيسينجر بتشاؤم. ماذا كان يقصد هنا؟ المعنى هو أنّ أموراً مثل الذكاء الاصطناعي يتمّ استخدامها في الصين «سياسيّاً»: لإدارة أعدادٍ كبيرة من الناس، مراقبة وضعهم الصحي، تقييم إنتاجيّتهم، تحشيدهم وتنظيمهم في حالات الوباء والحرب؛ وصولاً إلى خلق صلاتٍ اقتصادية جديدة وتنسيق مشاريع وطنية ضخمة (من القضاء على الفقر إلى تشجير الصحاري). ما يقوله كيسينجر فعلياً هو أنّ هذا النمط من النظام (الذي تذمّه المؤسسة الغربية باستمرار) سيكون دوماً متفوّقاً على النمط الليبرالي الرأسمالي الذي نجده في أميركا، و»التكنولوجيا السياسية» فيه متقادمة ومتخلّفة مقارنةً بالمنافس الصيني.
الفكرة الثانية التي قالها كيسينجر، وهي ستكون بداية موضوعنا اليوم، مفادها أنّ الحرب في عالمنا، حتى بالنسبة إلى قوة عظمى تواجه خصماً ضئيلاً، قد أصبحت مغامرةً بالغة الخطورة ولا يمكنّ التنبّؤ بعواقبها. الحرب كانت دوماً «خطيرة» وكان يمكن أن تواجهك، وإن كنت غازياً قوياً متفوّقاً، حالة مثل فييتنام؛ ولكن هذا لا يقارن بميدان الحرب الحالي ومخاطره الجديدة. أعتقد أنّ إسرائيل قد تعلّمت هذا الدرس بعد حرب لبنان الأخيرة، وأميركا أيضاً تفعل المستحيل لتجنّب المواجهة المباشرة مع خصمٍ «حديث»، وإن كان أضعف منها بكثير، وتفضّل الحروب بالوكالة. سوف أحاول شرح هذه الفكرة وما تعنيه في سياقنا المحلّي ولكن علينا أن نرجع قبل ذلك، لبرهةٍ، ألف عامٍ إلى الوراء.
«الحرب الحديثة»
بحسب التقسيم الذي يعتمده الباحثون العسكريون المعاصرون لأجيال الحرب «الحديثة»، فإنّ «الجيل الأول» من الحرب انطلق مع شيوع الأسلحة النارية وبندقية المشاة والمدافع الخفيفة التي يمكن نقلها إلى الميدان. نحن نتكلّم عن فترة حروب نابليون مثلاً. كما يكتب توماس هامِّس، فإنّ الحرب «الجديدة» قد سهّلها ظهور صناعاتٍ تسمح بإنتاج بندقيةٍ كفوءة وبأعدادٍ كبيرة. بل أصبحت هناك إمكانية لإنتاج بندقية «قياسية» للجيش، قطعها متشابهة ويمكن استبدالها بين سلاحٍ وآخر، بدلاً من أن تترك لكلّ مشغلٍ أن يصمّم بندقيته الخاصة (حاججت في مقالٍ سابق بأنّ إحدى بذور الثورة الصناعية كانت في توحيد الإنتاج والمقاييس عبر مئات المشاغل الفرنسية، وهو ما قامت به الملكية في أواخر أيامها لأغراضٍ عسكريّة ولإنتاج مدفعيّة «معياريّة» للجيش).
قبل ذلك، كانت الحرب مسألة «عضليّة» (نتكلم هنا عن عضلات الإنسان والحيوانات أيضاً). «التشكيل العسكري» منذ عصر البرونز إلى أيّام نابليون كان يرتكز على فكرة بسيطة: أن تضع عدداً كبيراً من الجنود في كتلةٍ كثيفة (مربّع أو مستطيل عادةً) بحيث، حين يصطدم بتشكيل العدوّ، يدفعه إلى الخلف أو يحطّمه أو يطحنه. الـ»فالانكس» الإغريقي هنا هو المثال الأوضح، ولكنّ كلّ جيشٍ قد اعتمد على تنويعةٍ من هذا النمط حتى ظهور الأسلحة النارية الخفيفة. على الهامش: أغلب ما ترينا إيّاه الأفلام عن الحروب القديمة والقتال ومبارزات السيوف لا علاقة له بالواقع. فيلم «طروادة»، مثلاً، مسلٍّ ولكنّه مزيّفٌ بالكامل: في عصر البرونز، لم تكن السيوف حادّةً حقاً، ولم يكن قتل الخصم – كما يصوّره الفيلم – يتمّ عبر حركةٍ رشيقة تشبه ضربة «كاتانا» خاطفة. في الحقيقة، كان المشهد أقرب لأن تحمل عصاً معدنيّة غليظة تضرب بها خصمك تكراراً حتّى يموت أو يقع أو تكسر فيه شيئاً – الحرب كانت دوماً عنيفة وبشعة، وخاصّةً في تلك الأيّام.
النخب الأميركية ترى التكنولوجيا كسلعة وتقنية ولكنّها ليست واعية لاحتمالاتها السياسيّة
عودة إلى موضوعنا، معنى الحرب «الحديثة» هو أنّ الجندي قد تحوّل من «أداة القتال» إلى «واسطة»؛ وعاءٌ تحمّله أدوات وتقنيّة وأموال واستثمارات. إن كان دايفيد لاندس قد عرّف الثورة الصناعية (في كتابه الشهير «بروميثيوس متفلّتاً») على أنها نقل الإنتاج من القوة العضلية للبشر إلى الآلات، فإنّ تطوّر الحرب «الصناعيّة» قد جرى على الطريقة ذاتها، أي استبدال العضلات بالتقنية والأدوات. ولكنّ كلّ جيلٍ من الحرب، أي كلّ مرحلة في التاريخ، كان يفرز جندياً من نوعٍ مختلف. أيام حروب نابليون، مثلاً، كان «الغلاف» الذي يمكن للجندي أن يرمي فيه ببندقيّته يقلّ فعلياً عن المئة متر، وتذخير البندقية كانت عملية طويلة ومعقّدة (الكثير من الأسلحة النارية الأولى كانت معدّة لأن تطلق النار في المعركة مرّة واحدة، يتبعها الالتحام المباشر). حتى مدفعية الميدان وقتها لن تصيب شيئاً بعد ألف متر. ولكن في الحرب العالمية الأولى، أصبح هذا «الغلاف الناري» يُقاس بعشرات الكيلومترات، حرب المدفعية الثقيلة والرشاشات وبدايات الطيران، والخصم يقصفك من دون أن يراك. أغلب الجنود في الحرب الكونيّة كانوا يُقتلون «عن بعد»، بالقذائف والرشاشات الثقيلة، من غير أن يشاهدوا عدوّهم أو يلتحموا به؛ وحين كان المشاة (أو من تبقّى منهم) يصلون إلى الخندق المعادي، تكون المسألة انتهت والعدو غالباً قد انسحب إلى الخطّ التالي. في الحرب العالمية الثانية أصبحت هذه المدافع والرشاشات متحرّكة تناور، وصار هناك قصفُ «في العمق» بالطيران – وهكذا دواليك مع مرور الزمن.
الفكرة الأساسية هنا، ومعنى «التحذير» الذي أطلقه كيسينجر، هي أنّنا لو عدنا إلى سبعينيات القرن العشرين، مثلاً، وكنت مكان أميركا أو إسرائيل، تواجه بلداً أضعف منك ولا يملك سلاح جوٍّ قوي، أو تحارب حركة مقاومة في بلدٍ غزوته، فإنّ «غلاف التأثير» الذي كان يمثّله العدوّ لم يكن يزيد على العشرة أميال أو 15 ميلاً حول قواته (أي مدى المدفع البسيط والقذيفة الصاروخية). خلف هذا الهامش، أنت في أمانٍ طالما أنّك تمتلك التفوّق الجوّي، وليس لدى الخصم وسيلةً لكي يطال قواتك أو خطوطك الخلفية أو مدنك خارج هذا المدى البسيط. في الوقت نفسه، إن حلّقت طائراتك فوق ارتفاع الـ4 آلاف متر، فهي ستكون في مأمنٍ من 90% من أنظمة الدفاع الجوي في العالم. أيّ شيءٍ «أكبر» من ذلك يحتاج إلى بنية تحتية ورأسمال وقدرات محصورة في عددٍ قليلٍ من الدول. كما يقول هامِّس («المقلاع والحجر»، منشورات زينيت، 2004) فإنّ كلّ جيلٍ من الحرب لا يتجسّد «فجأةً»، دفعةً واحدة، بل تظهر بذوره ونذره – وإن بشكلٍ بدائي – تدريجياً في المرحلة السابقة. بهذا المعنى، رأينا منذ السبعينيات إرهاصات لما ستشهده الساحة اليوم: أصبحت هناك صواريخ بحرية مثل «سيلك وورم» الصيني، يمكن أن تهدّد سفناً كبيرة بإمكانات بسيطة، وصواريخ «سكود» تطير مئات الكيلومترات، وأسلحة موجّهة ضدّ الدروع، يحملها أفراد وتدمّر دبابةً عن بعد كيلومترات (وفي وسعك أن تزوّد أكثر من مئة مقاتلٍ بهذه الصواريخ بثمن دبابةٍ حديثةٍ واحدة). هذه الأدوات كانت لا تزال في مراحلها الأولى ولا تسمح بتغيير المعادلات (كان في وسع البحرية الأميركية أن تأخذ راحتها في مياه الخليج عام 1991 رغم وجود «سيلك وورم»، بل كانت البارجات الأميركية تتجرّأ على الاقتراب من سواحل الكويت لقصفها بالمدفعية، و»سكود» لم يكن دقيقاً حتى يهدّد الخطوط الخلفية أو المطارات ومناطق تحضير العمليات بشكلٍ جدي)، غير أنّها كانت إشاراتٍ جنينيّة لما سيأتي اليوم.
ثمرة هذه التطوّرات، الحالة التي وصلنا إليها أو نقترب منها، هي أنّه لم يعد هناك ميدانٌ «آمن»، محصور، حتى بالنسبة إلى «قوة عظمى». أصبحت هناك صواريخ تكتيكية دقيقة، تحملها شاحنة نقل مدنيّة، ولكن مداها بمئات الكيلومترات وتصيب هدفاً نقطوياً. الأسلحة الدقيقة غيّرت كلّ شيء وهي، مع انتشار شرائح الكمبيوتر الصغيرة والكاميرات والقدرة الحسابية الرخيصة، ستصبح في متناول الجميع ولن يعود توجيه مقذوفٍ بشكلٍ دقيق (أقلّه بالنسبة إلى دولة متوسّطة الحجم) مسألة صعبة. الجو لم يعد للمقاتلات الثقيلة وحدها، بل أيضاً لأسرابٍ من الـ»درونات» التي تصغر باستمرار، من الأصعب بكثير أن ترصدها وتسقطها على أن تنتجها وتطلقها بأعدادٍ كبيرة. أصبح يمكنك أن «ترى» أبعد بكثير من الماضي: صور الأقمار الصناعية في متناول الجميع، من السهل أن تضع عيناً في السماء، وعدسة الكاميرا التي تجدها في بعض الهواتف اليوم تفوق قدرة المنظار الذي كان يستخدمه الجيش قبل عقود قليلة. أغلب هذه القدرات كانت موجودة لدى القوى الغربيّة، ولكن في حالة احتكار لها حين كان عصر الإلكترونيات لا يزال في بداياته، فما هو شكل الحرب الجديدة التي سنراها في المستقبل القريب؟ تماماً كما قال كيسينجر: عنيفة وخطيرة ولا يمكن على الإطلاق التنبؤ بها.
أساس القتال
هل يعني هذا أنّ الحرب قد أصبحت صعبة أو مستحيلة، وسيقلّ حدوثها في المستقبل؟ على العكس تماماً، مع الأسف، فالحرب أساساً هي نشاطٌ اجتماعيّ، تفرزه ضرورات التنافس والرأسمالية وطبيعة الإنسان في صورته التاريخية الحالية؛ ولهذا السبب هي «لغة» تعاملٍ موجودةٌ بين الناس منذ فجر البشريّة، «عمليّة تبادل» (transaction) بين القوي والضعيف، أو بالعكس. كلّ ما تفعله التقانة هو أنّها تغيّر في قواعد اللعبة. على سبيل المثال، حروب «الجيل الأوّل» (المرحلة النابليونية وما بعدها) هي التي أفرزت جيوش التجنيد الإجباري الهائلة، ومعها فكرة القتال الجماعي دفاعاً عن «الأمّة»، فنمط تلك الحروب كان يستلزم أعداداً ضخمة من الجنود، وقدرة على التضحية والموت لا يمكن أن يقوم بها إنسانٌ عادي من غير عقيدةٍ تحرّكه ورفاقه، وتعطي تضحيتهم معنىً أسمى من مجرّد الموت المجاني العنيف في ساحات القتال. بالمثل، حرب عصر الإلكترونيات هي التي أعادتنا (أقلّه في الغرب) إلى نمط الجيوش المحترفة صغيرة الحجم، وألغي التجنيد الإجباري في أغلب هذه الدول – فعنصر تفوّق الغربيين في هذه المرحلة كان في تكديس التكنولوجيا والتفوّق النوعي على خصومهم، وليس بالعدد والقوة النارية.
نظريّتي هي أنّ الدولة الروسية سوف تواجه خياراً شبيهاً كلّما استطالت الحرب في أوكرانيا وتبيّنت استحالة الحروب «السهلة» أو «النظيفة». فكرة «جيش الدولة» الذي يشبه جهازاً بيروقراطياً محترفاً، معزولاً نسبياً عن المجتمع، أعددته ودرّبته وأنفقت عليه ليخوض حروبك، قد لا يكون نموذجاً صالحاً لروسيا، أو كافياً في عالمٍ عنيفٍ كعالمنا، تواجه فيه موسكو خصوماً أقوياء وأثرياء، مستعدّين لتزويد أعدائها (الداخليين والخارجيين) بآخر أجيال التكنولوجيا وكلّ أشكال الدعم. الحرب السريعة الخاطفة كانت على الدوام حلماً للمخطّطين العسكريين ولكنّها قلّما تحقّقت على الأرض، وروسيا – تاريخياً – لم تكن تنتصر في الحروب عبر «قوات النخبة». القيصر كان يهدّد خصومه الأوروبيين بأنّ في وسعه، في أشهر، تجنيد عشرة ملايين فلّاح وتنظيمهم في جيشٍ أتخمه بالمدفعية. وستالين انتصر على النازيّة عبر التعبئة العامة والجيش العقائدي، والتشكيل الذي يُباد فيحلّ مكانه فوراً تشكيلٌ بديل (وإلّا لما امتلك الجيش السوفياتي فرصةً في وجه آلة الحرب الألمانية). في دولٍ مثل روسيا، من الصعب أن تخوض حرباً ضروساً من دون أن تطلب مشاركة «المجتمع» فيها؛ والمعضلة هنا، بالطبع، هي أنّ هذه المشاركة تفترض تنظيماً جماعياً للناس، وتسييساً لهم، وعقيدةً تحرّكهم وقضيّة، وهذا ليس سهلاً ولا يقدر عليه الجميع – بل هو أمرٌ «خطير» بالنسبة إلى الكثير من السلطات التي لا تملك الهيمنة في بلدها.
انطلق «الجيل الأول» من الحرب مع شيوع الأسلحة النارية وبندقية المشاة والمدافع الخفيفة التي يمكن نقلها إلى الميدان
الأمر ذاته ينطبق على مفهوم الحرب في بلادنا، «المختبر» الأوّل لهذه «النظريات». سيكون من المثير تطبيق هذا الكلام على النقاش الدائر حالياً في لبنان حول سلاح المقاومة، ولكنّه لن يكون جدلاً نافعاً لأنّ لا نقاش حقيقياً يجري هنا، بل محض نفاق («النفاق» ليس بمعنى الشتيمة، بل بمعنى أن يكون الجدال مزيّفاً أو غير نزيهٍ، أن تقول ما لا تقصد أو لا تقصد ما تقول). الفكرة هي أنّ أغلب الشعارات في موسم الانتخابات هذا عن سلاح المقاومة («السلاح غير الشرعي»، «سلاح الميليشيا»، «الاحتلال الإيراني»، إلخ) لا علاقة له بالكلام عن السيادة والشرعية و»حصرية السلاح» و»دور الدولة» كما تقول الأصوات المختلفة المتنوّعة العديدة التي تريد، في آخر الكلام، رأس المقاومة (الموضوع الوحيد الواضح الذي تتفق عليه أغلب القوى السياسية، في قطاعٍ عريضٍ من السياسة اللبنانية، هو «مواجهة سلاح حزب الله»، وهم في ذلك يتنافسون ويزايدون على بعض).
هناك معضلة سياسية حقيقية في لبنان، لا يمكن حلّها، ولكنّها ليست في الجدال الزائف أعلاه. «التناقض المركزي» يمكن اختصاره على النحو التالي: من جهةٍ، لديك في لبنان حركة مقاومة مسلّحة، هي في الوقت ذاته أكبر حركة اجتماعية منظّمة في البلد؛ ومن جهةٍ أخرى، هذه الحركة هي مصنّفة «إرهابية» في أميركا وأوروبا والخليج. هذا الواقع، وليس أيّ شيءٍ آخر، هو الذي فجّر أيّ احتمالٍ لإجماع النخب السياسية في لبنان (والنظام اللبناني يقوم على إجماع النخب ومن دون ذلك يشلّ). وهذا الواقع لن يتغيّر ولا حلّ سلميّاً له في السياق القائم، فلا المقاومة ستساوم في الأمور الأساسية وتتفاوض مع من يتآمر عليها، والطرف الآخر لن يتوقّف عن أداء مهمّته ولا مشكلة لديه، في سبيل ذلك، بأن يحترق البلد.
الموضوع هنا ليس موضوع «رأيٍ» ونقاش وقناعات. «رأس المال العالمي» لن يتعامل معك في لبنان وسيتمّ عزلك عنه، إن لم يكن لديك موقفٌ واضحٌ ضدّ سلاح المقاومة ولم تحاربها لصالحه، فلا داعي لتغطية المصالح والانتماء إلى المؤسسة التي تغريك بحججٍ «نظريّة» وفلسفية. على سبيل المثال، ينطلق الكثير من النخب اللبنانية من «مسلّمة» اتفقوا كلّهم عليها على ما يبدو وجعلوا منها قانوناً ونقطة انطلاقٍ للنقاش. هذه المسلّمة مفادها أنّ هناك – جوهرياً – شيئاً حراماً في أن تكون هناك مقاومة مسلّحة، وأن لا تكون للدولة حصريّة السلاح، وأنّ هذا في ذاته «خلل» لا بدّ أن يُعالج، ونعود إلى الوضع «الصحّي» حيث هناك جيشٌ وطنيٌّ محترف لا شريك له. من أفتى لك بذلك؟ ماكس فيبر؟ هذا ليس قانوناً ولا قاعدة، وهناك الكثير من الحالات حيث توجد تنظيمات مسلّحة خارج الجيش، أو خارج الدولة حتى. هناك نمط جيشٍ إلى جانبه مقاومة شعبية، وهناك نمط جيشٍ إلى جانبه ميليشيات. هل قرأت الدستور الأميركي؟ التعديل الثاني في الدستور، الذي يقونن حمل السلاح للمواطنين، هو في الأساس بندٌ يشرّع «الميليشيات جيّدة التنظيم» باعتبارها «ركناً لا غنى عنه للدفاع عن الوطن»؛ وقد جاء حقّ حمل السلاح للناس كعنصرٍ مكمّلٍ لهذا المبدأ. الفكرة هي أنّه، في بلدٍ صغيرٍ مثل لبنان، من السهل على نخبةٍ محصورة متشابكة أن تخلق «حقيقتها» الخاصّة بها – أي أن تقدّم انحيازاتها على أنّها قواعداً وقوانيناً في السياسة. أساس المسألة عندي هنا هو ليس في السلاح والنظريات العسكرية، أو «القدرات القتالية» (كما يختزل البعض المقاومة، وهم يتباحثون في كيفية تفكيكها، وكلّهم أصبحوا خبراء عسكريين، يتبرّعون بثقة بالخطط والاستراتيجيات لقتال إسرائيل)؛ الأساس هو أنّ هذه المقاومة، بأيّ مقياس وضمن أيّ سردية عن تاريخنا، هي أكثر شرعية ووطنية وتجذّراً من أي مؤسسة أو كيان أو فكرة في هذا البلد، ومن هنا يبدأ النقاش.
خاتمة
في «أشباه المستعمرات» التي نستوطنها، تخلق العولمة أشكالاً من الممارسة السياسية وأسلوب حياة و»نموذج» للنخب تتشابه أحياناً بشكلٍ مدهش، من بيروت إلى تبليسي إلى بغداد. جزءٌ أساسي من المشكلة مع «السياديين» في لبنان هي أنهم ليسوا حقّاً سياديين كما يقولون. بتعابير أخرى، كنت سـ»أحترمهم» بشكلٍ ما، أو أراهم – أقلّه – بصورة مختلفة لو أنهم فعلاً أناسٌ قوميّون متعصّبون، لبنانويّون انعزاليّون يرفضون أيّ تأثيرٍ خارجيٍّ ويأنفون الخضوع والركوع لأحد. المشكلة هي أنهم على عكس ذلك تماماً، يبحثون عن راعٍ أجنبيّ، ثريٍّ وقويٍّ، حتى يركعوا له ويخدموه، ولو استلزم ذلك أن يحاربوا أبناء بلدهم. هذا ليس كلامي بالمناسبة، بل هو كلام عجوزٌ أوكرانيّة من الدونباس من الإثنية الروسية، قالته لجنودٍ أوكرانين من «آزوف» تمّ أسرهم في الحرب الجارية. في تسجيل فيديو، تصرخ العجوز في وجه الأسرى بأنّهم، في السنوات الماضية، جعلوها تكرههم وتكره أوكرانيا والعلم الأوكراني، وهي تراهم يعاملون أمثالها بهذا القسوة والعدائية، فيما هم «يركعون» لأيّ أوروبيٍّ يدخل بلادهم – «إن كنتم تحبّون الركوع لهذه الدرجة»، قالت العجوز، «فاركعوا إذاً لروسيا».
سيرياهوم نيوز3- الأخبار