آخر الأخبار
الرئيسية » مجتمع » الحياة المؤجّلة: حين نعلّق وجودنا على غدٍ قد لا يأتي

الحياة المؤجّلة: حين نعلّق وجودنا على غدٍ قد لا يأتي

 

عبد القادر دمج

 

 

هناك الكثيرُ منَ الأمورِ التي نُحِبُّ أن نقومَ بها: أن نسافرَ، نغامر، نفرحَ، ونعيشَ كما نريد، لكننا نؤجّلُها. نقولُ: “ليس الآنَ، دَعْني أركّزُ على هدفي أولاً”. وحين يتحققُ “رحْ عيشْ حياتي” وكأن “الحياة ناطرتنا”. كم مرةً قُلتَ في نفسِكَ: “حياتي لم تبدأْ بعد؟” أو “عندما أتخرّج، عندما أجِدُ عملاً، عندما أُصبِحُ غنياً، عندما ألتقي بالشخصِ الملائم”، عندها حياتي ستبدأ.

 

نربُطُ سعادتَنا وحياتَنا إلى حينِ تحقيقِ هدفٍ ما، وقد يتحقّقُ هذا الهدفُ، لكننا نتفاجأُ بأنَّ الإحساسَ لم يتغيّر… نفسُ الشعورِ: فراغٌ، قلقٌ وانتظار. ويبقى السؤال: ماذا ننتظر؟ ولماذا نؤجل الحياة؟

 

كيف نصبح أسرى الـ”ما بعد”؟

توضح المعالجة النفسية العيادية، سارا روكس، في حديث لـ “النهار”، أن كثيرين يعيشون ضمن نمط تفكير يُعرف في علم النفس السلوكي المعرفي (CBT) بـ”تفكير كل شيء أو لا شيء”؛ أي إمّا أن نبلغ هدفاً كبيراً لنشعر بأننا بدأنا نعيش، أو نظلّ عالقين في الشعور بأن الحياة بلا طعم أو معنى.

 

تضيف روكس: “هذا النمط من التفكير يكرّس وهماً مفاده أن الحياة الحقيقية تبدأ لاحقاً، لا في الحاضر. فنُرجئ الشعور بالرضا إلى ’ما بعد‘، فترى من يؤجل السفر لأنه لم يحصل بعد على الترقية، أو من يرفض الشعور بالفخر بنفسه لأنه لم يحصل على الشهادة الجامعية التي كان بود أهله أن ينالها”.

 

وعن مصدر هذا الشعور، تؤكد روكس أنّه لا يأتي من فراغ، “بل تقف خلفه عوامل متشابكة، تبدأ من الأسرة والتربية المبكرة، مروراً بتجارب الطفولة، وصولاً إلى ضغط المجتمع وتوقعاته الصارمة، إذ غالباً ما يُربط تقدير الذات والنجاح الشخصي بالإنجازات الملموسة، كأن يُقال لطفل يحب الرسم: ’هذا مجرد ترفيه… يجب أن تصبح طبيباً أو مهندساً‘، فيشعر أن هواياته الحالية لا تستحق التقدير، وينطبع في ذهنه أن وجوده الحالي لا يحمل قيمة كافية. وبمرور الوقت، تترسّخ هذه الفكرة في ذهنه داخل منظومة اجتماعية تروّج لفكرة أن الحياة الحقيقية لا تبدأ إلا عند بلوغ النجاح”. هكذا تُرسم صورة مثالية للسعادة تفصل الإنسان عن حاضره، وتدفعه للعيش في سباق دائم نحو ما هو آتٍ.

 

التأجيل للهروب من الواقع

تشير روكس إلى أن تأجيل الحياة ليس مجرد تأخير عابر، بل هو في كثير من الأحيان درع حماية نفسي يتّخذه الإنسان لتجنب مواجهة واقع مؤلم أو قرار صعب، “فعندما نشعر بالعجز عن تغيير وضعنا الحالي، نميل إلى تأجيل الخطوة التالية، معتقدين أن الوقت غير ملائم أو أن الظروف ستتحسن لاحقاً”، بحسب روكس.

 

لكن هذا التأجيل لا يُنهي المشكلة، بل يؤجلها فحسب. ويمنحنا وهماً مؤقتاً بالراحة، لكنه في الحقيقة يغرس جذور العجز في داخلنا. ومع كل لحظة نؤجل فيها، تتضاءل قدرتنا على المواجهة، ويزداد ثقل الواقع الذي نحاول التهرب منه بلا جدوى.

 

 

تأهب مزمن يعطل الحياة

في علم النفس، يُنظر إلى من يعلّقون حياتهم على محطات مستقبلية كأشخاص يعيشون في حالة تجميد نفسي. فعندما تتحوّل الحياة إلى انتظارٍ مستمر، يدخل الدماغ في وضع “تأهّب دائم”، ما يرهق الجهاز العصبي ويُقوّض قدرة الإنسان على الاستمتاع بالحاضر.

 

هذا النمط يولّد قلقاً مزمناً، ويخلق فجوة دائمة بين ما هو كائن وما يُفترض أن يكون. حتى عند تحقيق الأهداف المنتظرة، يظلّ الشعور بالنقص قائماً، ويترافق مع استنزاف عاطفي، وتراجع في الحافز، وإحساس داخلي بعدم الإشباع. وهكذا، يجد الفرد نفسه في دائرة مغلقة: ينتظر كي يبدأ الحياة، لكن كلما طال انتظاره، تضاءلت قدرته على عيشها فعلاً.

 

ترى روكس أن من أبرز مؤشرات الإصابة بمتلازمة الحياة المؤجّلة مقارنة الذات المستمرة بالآخرين، والشعور المزمن بأننا متأخّرون عنهم في سباق الحياة. يرافق ذلك تأجيل متكرّر للقرارات المصيرية تحت ذريعة أن “الوقت غير ملائم”، مع إحساس دائم بأن الحياة الحقيقية لم تبدأ بعد… وأنها مؤجّلة إلى “وقت لاحق”.

 

لماذا لا نشعر بالسعادة حتى بعد تحقيق أهدافنا؟

يعيش الدماغ البشري ما يُعرف في علم النفس بـ “تكيف المتعة” (Hedonic Adaptation)، وهذه ظاهرة تجعله يعتاد بسرعة على الإنجازات، فيتلاشى شعور النشوة الأوليّة ويحلّ مكانه فراغ يدفع الإنسان للسعي وراء تحديات جديدة.

 

من هنا، تؤكد روكس أن السعادة لا تأتي من تحقيق الأهداف فحسب، بل من عيش حياة ذات معنى، وبناء علاقات صحّية، وتبنّي شعور بالامتنان تجاه اللحظة. وتضيف: “الشعور بالرضا لا يعني بالضرورة أن طموح الإنسان توقّف، بل هو دليل على القدرة على تقبّل اللحظة الراهنة، من دون التخلّي عن الرغبة في التطوّر والنمو. وهنا يكمن جوهر الفرق بين السعي والتأجيل. فالسعي يدفعنا إلى التقدم مع الحفاظ على متعة الحاضر، بينما يعلق التأجيل حياتنا على مشهد مستقبلي يجعلنا نعيش في انتظار دائم”.

 

كيف نحرر أنفسنا إذاً من وهم التأجيل؟ تجيب روكس: “الحياة ليست مجرّد تمهيد لشيء أكبر. فالانطلاق نحو حياة أكثر حضوراً يبدأ من خطوات بسيطة، مثل تدوين الإنجازات اليومية، والشعور بالامتنان، وقضاء وقت نوعي مع من نحب، وتخفيف الضغط عن النفس”، مشددة على أن العمر لا يُقاس بالسنوات التي مضت، بل باللحظات التي نعيشها بوعي، وبالتجارب التي تصوغ شخصياتنا وتمنحنا توازناً أعمق في الواقع.

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

«مادلين» في طريقها إلى غزّة… كي لا نفقد إنسانيتنا!

  سامي حداد   «ونحن نفعل هذا لأنه مهما كانت الصعاب، فإنّ علينا مواصلة المحاولة لأنّ اللحظة التي نتوقف فيها عن المحاولة هي اللحظة التي ...