شكّل حديث السيد الرئيس بشار الأسد في اجتماع وزارة الأوقاف الدوري الموسّع يوم 7-12-2020 في جامع العثمان بدمشق قاعدة حوار وسجال ذات بعدين: معرفي ووطني، يهدف، من بعض ما يهدف، إلى الخروج من سياق الاشتباك التاريخي المستدام، إلى سياق آخر تتلاشى فيه كثير من أسباب هذا الاشتباك.
وكان من الطبيعي أن تتناسب قوة الحديث ومشروعيته وتأثيره بهذين البعدين طرداً مع مساحة تلقيه الواسعة نظراً إلى عديد المحاور والأفكار التي تضمّنها بجرأة ووضوح في مرحلة حرجة من تاريخنا وواقعنا الوطني، والعروبي، والروحي (الإسلامي بخاصة)، مرحلة يلخّصها للأسف قول شمعون بيريز عام 1995 تمهيداً لكتابه (الشرق الأوسط الجديد) الصادر عام 96: (لن نستطيع الدخول إلى جسد هذه المنطقة قبل تدمير الثقافة التي تقول: إن العرب أمة واحدة)… وذلك لأسباب يمكن اختزال أهمها بالتالي:
1- حاول بعض المهتمين أن يرى الحديث نصّاً طارئاً مقيّداً بالزمان وبالمكان اللذين أُلقي فيهما، بينما في الواقع هو جزء من سياق طالما أكد السيد الرئيس عليه في مناسبات عديدة في السنوات السابقة وأمام مؤسّسات متنوعة محلية وخارجية، فهو يتفاعل نصياً مع هذا السياق، تفاعلاً لم يقف عند هذا الحدّ، إذا تطوّر التفاعل بأشكال متباينة مع وجهات نظر عديدة متفاوتة، فصار الحديث نصّاً في ميدان (تفاعلية النصوص)، وفيما يُعرف في الفكر النقدي المعاصر بـ Intertextuality وهذا ما طوّر الحوار والسجال في أبعاده الاصطلاحية، والمفاهيمية أيضاً.
2- تمّ في أغلب الأحيان تلقي الحديث على أنه خطاب مرسل على شكل نص مكتوب Speech، بينما هو في الواقع كان أقرب إلى المشافهة، والمحادثة، والمحاضرة، والحوار أي هو Discourse ، ما يحيل إلى الفرق في التلقي والتأويل الناجم عن الأثر المتباين لكل من (الشفاهية Orality) و(الكتابية Literacy)، وهذا لا يخصّ ميدان النقد الأدبي، بل كثيراً ما يدخل في ميدان السياسة بما فيه من سجالات، إذ نعرف أن كثيراً من الأفراد والمؤسسات السياسية يجيب مسوّغاً أمام إشكالات ناجمة مع الآخر عن تلقي الـ Discourse: لم أقصد ذلك وقد تمّ تأويل كلامي بما لا أقصده.
وفي هذا المنحى عمد بعض المتابعين إلى عزل المصطلحات الواردة في الحديث وتحويرها عن السياق العام فيه ليدخلها إلى تأويله الخاص الذي يحلو له أن يساجل ويجادل فيه، وهذا حقّ لا، ولم يُصادر.
وهنا كان على المهتم ضرورة الإمعان في مقدمة الحديث حيث طرح السيد الرئيس (الإشكالية الناجمة من حديث مسؤول في مسجد عن قضايا ذات طابع عقائدي وفكري في الوقت الذي يواجهنا فيه الكثير من التحديات، وخاصة في الجانب المعيشي).
3- تمّت قراءة الحديث، وإعادة قراءته والتفاعل معه على أنه يدخل بدقة في مجال المصطلح Term، أكثر من دخوله في ميدان المفهوم Concept والحقل الدلالي فيه، وهذا ما أدى إلى قراءة خاطئة في بعض الأحيان، والحقيقة هذا يهدف إلى حرف رسالة الحديث والغاية منه من خلال نقل مخاتل للغاية وللمقاصد المرسلة من قائد هو ربان سفينة في بحر متلاطم الأمواج، إلى باحث مختص يُعنى بالأصل المعجمي للكلمة أكثر من عنايته بوظيفتها الجمعية والاجتماعية؟!، إذ لا يقع حديث السيد الرئيس في الميدان الخاص لعلم المصطلحات Terminology.
فهناك فرق في الدلالة والوظيفة بين المصطلح والمفهوم، إذ يركّز المصطلح على البنية اللفظية والمعجمية المتداولة ضمن المجال الخاص فيه، بينما يركّز المفهوم على الاستنتاجات الفكرية التي يجب الوصول إليها لخدمة جماعة من الناس. وعلى هذا الأساس نجد في عالم اليوم عدم استقرار، أو اتفاق، للدلالة المعجمية للمصطلح في زمان ومكان محدّدين، فاضطربت المصطلحات باضطراب الأحوال وتغيّرها وتطورها، ولننظر مثلاً في المآل المضطرب لمصطلحات: الاشتراكية- العلمانية- الليبرالية- الجهاد- الإرهاب. حيث لم يعرف المصطلح الجمود مع تداوله عبر الزمان والمكان، إذ صار توالدياً براغماتياً، فصدرت مؤلفات حول: وهم الحياد العلمي، معتبرة أن الحقيقة العلمية يمكن أن توظّف لتندرج في سياق الإيديولوجيا.
ولهذا يمكن أن ننظر إلى عدد من العناوين التي طرحها السيد الرئيس في حديثه على أنها مفهوم أكثر مما هي مصطلح مثل: الثنائية- العقائد والمصالح- العروبة والإسلام- الليبرالية… مفاهيم لم تأتِ في سياق الحرفية المعجمية، بقدر ما أتت وظيفية لإطفاء لهيب الأتون السوري، والعروبي، والإسلامي.
4- لم يكن هناك أبداً ضير في تلقي البعض للحديث تلقياً لا ينفصل عن الواقع الجمعي المعيش بقسوته، فأسبغ عليه ظلالاً من الكآبة والتشاؤم متأثراً بهذه القسوة التي أوضحها السيد الرئيس في مطلع حديثه، توضيحاً جريئاً لم يترك مجالاً مقنعاً للاستثمار فيها، إذ أن ضراوة الواقع نابعة من غياب اتفاق وطني ومعرفي بين مكوّنات الشعب السوري، والعربي، على الثنائيات والمصطلحات والمفاهيم التي تحدّث فيها سيادته، هذا الغياب هو الذي أدّى إلى التذرّر المجتمعي، وإلى الاستثمار الخبيث في تلك المكوّنات التي طالما حظيت تاريخياً بمآثر الوحدة المجتمعية والوطنية، وكانت مقاصد الحديث لإحياء هذه المآثر والعودة إلى مناخها جرّاء تحويل هذا الغياب إلى حضور فاعل وبنّاء.
5- أتى الحديث في سياق طفو طروحات فكرية وسياسية على المستوى العالمي ولاسيما في الغرب تؤكد على حضور (الدين في الحياة العامة)، وتحبّذ وظيفته الضبطية (الأخلاقية) في المجتمع، إذ هناك اعتراف من كبار المفكرين بأن (الدين لم يعد يقبع في حواشي الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية، بل في صلبها) وبأنه (في عصر ما بعد الحداثة يستطيع العقل الحديث أن يتعلّم أكثر عندما يستطيع توضيح علاقته بالوعي الديني المعاصر)، بحيث (يمكن للمجتمع العلماني والمجتمع الديني أن يقدّما مساهماتهما البنّاءة فيما يتعلق بالمواضيع التي يختلف عليها الناس في الحياة العامة، بعد أن تأكّدت حاجة النظام الدستوري إلى الدين من أجل التبرير العقلي لصلاحية سلطته)… وهذا واضح وضرورة -كما نعيش- عند العرب وعند المسلمين أيضاً.
بالنتيجة لم يكن حديث السيد الرئيس إلا نتاج مثاقفة دقيقة للواقع الإقليمي والدولي، في سبيل رسم بعض ملامح الطريق المؤدية إلى الخلاص من نتائج العدوان على المجتمع، والدولة، والدين أيضاً، إذ أننا (نعيش كمجتمعات أزمة هوية) و(لو تخاذل الجيش لانتصر الإرهاب، ولو تخاذلت المؤسّسة الدينية لانتصرت الفتنة).
وبهذا تكون الدعوة جادّة ومجدية إلى إعادة قراءة الحديث ومثاقفته وطنياً ومعرفياً، وحينها يكون من يرى ثناء السيد الرئيس على أداء أي مؤسّسة وطنية في غير محله، رأياً لاينفع.
بقلم… الدكتور عبد اللطيف عمران
سيرياهوم نيوز 5 – سانا