إسماعيل مروة
حفلت كتب التراث والسيرة بما يمكن أن يكون مصدراً وملهماً للكاتبين والباحثين فيما يتعلق بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعني الباحثون في نسخ هذه السير وعرضها على القراء، وكانت هناك تجارب ارتبطت بالوجدان الشخصي للمؤلف كما فعل الكاتب خالد محمد خالد في كتابه (خلفاء الرسول) وهو المتحول من فكر إلى فكر من (هنا نبدأ) في التطرف الماركسي، إلى خلفاء الرسول في الاعتدال الإسلامي، واستطاع هذا الكتاب أن يأخذ الصدارة زمناً طويلاً اعتماداً على ظروف صدوره وانتماء كاتبه، فقد وجد القارئ شيئاً مختلفاً عما يصدره الدعاة من تآليف.. واليوم صدر في دمشق كتاب غاية في الأهمية (الخلفاء الراشدون) من تأليف الأستاذ الدكتور أحمد بدر الدين حسون، عن دار المصطفى المعنية بكتب التراث، فماذا في هذا الكتاب من جديد؟
بين الماضي والحاضر
كتاب (الخلفاء الراشدون) يصدر عن عالم من علماء الدين والفقه والفتوى، عن عالم متصدر للتدريس والخطابة، صاحب حضور مؤثر وفاعل، عالم عاش مع الإمام محمد بن إدريس الشافعي عقوداً من الزمن حتى أخرج تراثه في أكثر الموسوعات أهمية (موسوعة الإمام الشافعي)، عن عالم يعيش الحياة بين الناس بمختلف انتماءاتهم، ولا يقصر حضوره على فئة معينة، لذلك خرج بموسوعة فكرية قبل هذا الكتاب (في النور والتنوير) يقدم فيه صوىً ومعالم للحياة المعاصرة من منظور فقهي وديني وإنساني يمازج بين العقل والروح، وهو في هذا الكتاب يختار منارات من تاريخنا الماضي والحاضر (الخلفاء الراشدون) لا ليروي سيرهم، فالرواية سهلة وممكنة، وقد لا يحتاجها واحدنا، بل لنستلهم منها في الحاضر ما يجب أن نستلهم لتكون حياتنا غنية بالعقل والروح كما يطرح الدكتور الفاضل في كل أفكاره.
وهذا ما يشير إليه الأستاذ الدكتور مصطفى ديب البغا، العالم العامل العلم في تقديمه للكتاب «أيها الأخ الفاضل، والعالم العامل، والمرشد الناصح، جزاك الله تعالى خيراً في نصحك الأمة وإرشادك لها إلى الصراط المستقيم، حيناً من الزمن ليس بالوقت القصير، بخطبك اللواتي تجلى فيها إيمانك وصدقك ونصحك للمسلمين، ثم أكرمك الله تعالى أن وُلّيت الفتوى العامة لسورية، فكان منك ما يرضي الله تعالى في نصح الأمة، وإرشادك إلى الإخاء والود والحب والتعاون على الخير».
والدكتور مصطفى البغا هو واحد من العلماء البارزين العاملين الناصحين، وقد نعمت بلقائه، وصحبة عمر لأكثر من أربعة عقود مع نجله الأستاذ الدكتور محمد الحسين البغا صديق دراستي، وهو صاحب رأي خاص لا يميل مع الهوى، وحكمه بعد قراءة الكتاب ناتج عن رؤيته في رسالة الشيخ الدكتور أحمد، وفي الكتاب (الخلفاء الراشدون) يقدم المثل والنصح والإرشاد، ويدعو إلى الإخاء والحب.
والدكتور حسون في مقدمته يحدد منطلقاته المرسومة (الصديق رضوان الله عليه أمان وخلافة، وجمع كلمة بعد زلزال الرحيل.. الفاروق رضوان الله عليه عدل وفتح، سلام وأمان على أبواب القدس.. عثمان ذو النورين رضوان الله عليه لنهضة علمية اقتصادية إيمانية لا ينكرها فكر قويم.. علي الكرار سلام الله عليه والرضوان من تألق بعلم وعمل وإيمان ورجولة.
ابن عبد العزيز مجدد نهج الراشدين وإشراقة التاريخ والزهد..
تعالوا للبناء، وألا نسمح لمن اتفق أو اختلف اختلاف الحجة لتمزيق وحدة الأمة.. إنهم معالم هداية ومنارات نور أقدمها لأمتي من منبر الجمعة).
الخطابة والمنهجية
لم يختر الدكتور أحمد أن يضع مصادره ويؤلف كتاباً عن الخلفاء الأجلاء، وإنما اختار أن يكونوا موضوعات لخطب منبرية استمرت زمناً طويلاً، وفي هذا التفصيل نستفيد من قضايا:
1- المنهجية في تحديد موضوع الخطبة لدى السادة العلماء.
2- إثراء الخطب بما يغني المتلقي المؤمن بكثير من الفوائد.
3- تقديم الرؤى العلمية المدعومة بالأخبار الموثقة.
4- إغناء الخطبة بالقرآن والحديث والشعر والحياة.
5- تقديم قراءة جديدة لفكر متجدد يتسم بالوضوح والصدق.
وحين نعود إلى الكتاب نكبر الرجل العالم الصادق، فقد كان بإمكانه أن يزيل ويحرر بعض القضايا، وأن يضيف من المصادر ليلغي سمة الخطابة عن الكتاب، لكنه فعل وبإصرار، وثبّت الخطبة الأولى والخطبة الثانية، وربما أراد بذلك أن يعطي نموذجاً للخطابة لمن وعى وأراد أن يقتدي وليقول: إن المؤمن الذي يأتي مستعداً ومتزيناً ومتعطراً يستحق من الخطيب أن يغوص في المصادر والمراجع، وأن يحترم عقله ليقدم له مادة علمية إيمانية لا تعتمد على الخرافة والإنشاء، وربما أراد من إثبات ذلك مع التواريخ المحددة أن يستعيد من أراد سماع الخطب مع الكتاب ليدرك مصداقية الخطابة وقدرتها عندما تحترم الحضور على أن تكون بين دفتي كتاب.
فصول الكتاب كانت بعدد الخطب، وعنوان الخطبة هو عنوان الفصل، وبمراجعته نجد أن عنوان الخطبة هو ما يحتاجه الإنسان، وما تدعو له الضرورة، لذلك لم تحمل العناوين عبارات إنشائية، بل حملت منهج العمل الذي يحتاج إلى إظهار.
1- سيدنا أبي بكر أربع خطب: (من ساحة الوحي إلى ساحة البناء/ التوازن بين العاطفة والعقل/ امتحانه/ توحيد الأمة).
2- سيدنا عمر ثماني خطب (المسؤولية الفردية/ أعزه الله بالإسلام وأعز الإسلام به/ أثر التربية في بناء شخصية الفرد/ عدم التلون في الحياة/ البداية في البعد عن لقمة الحرام/ تحمل المسؤولية الفردية/ تحمل مسؤولية العقيدة/ حقيقة ارتباطنا بالقدس).
3- سيدنا عثمان ثلاث خطب (الاستقامة في حياته/ دور المنبر في بناء الأمة/ الفتنة وأثرها في تحطيم الشخصية الإسلامية).
4- سيدنا علي أربع خطب (شرف آبائه وأجداده/ بناء الشخصية المسلمة على البذل والتضحية/ التجديد والكلمة/ الفرقة واستشهاده).
5- عمر بن عبد العزيز أربع خطب /كيف يشرق الأمل في هذه الأمة/ حجة على هذا الزمان/ كيف نهض بالأمة.. إصلاح المال؟/ كيف وحّد عمر بن العزيز الأمة؟).
الغنى المعرفي والديني
فإن من عرف الأستاذ الدكتور وحظي بحضور خطب له فإنها تتسم بالحضور الكبير، والطول والفائدة، واليوم حين استعرضت، بل حين قرأت هذا الكتاب حرفاً حرفاً اكتشفت السر في النخب التي لا تتوقف عن المتابعة، وفي طول الخطبة، فالخطبة غنية بالآيات التي تنثال على لسانه، والأحاديث الصحيحة التي يستحضرها عقله، والشعر الجميل المناسب الذي ترتاح إليه الروح، وحين صارت الخطب على ورق تمت إحالة الآيات في الهوامش، وتخريج الأحاديث الشريفة من الكتب الحديثية الصحيحة، والعودة إلى المصادر، وتخريج الشعر من دواوين الشعراء كأحمد شوقي ومحمد إقبال.. والحديث عن الخطبة وصورة إخراج الكتاب يبين للقارئ الكريم بأن الخطبة، وإن كان صاحبها ملكاً في الفصاحة والبيان، إلا أنها معدّة إعداداً يليق بالحضور والملقي معاً، وحين أعدّت هذه الخطب أمضى وقتاً طويلاً في العودة والتوثيق والتخريج، ولم يشأ أن يتركها سرداً يبحث القارئ عنها أو يعجز.. فالغنى المعرفي ليكون بين يدي القارئ ليهدي ويوثّق، ويسهّل العودة إلى المصادر.
القواسم المشتركة
يتمتع الدكتور أحمد بدر الدين حسون بأفق لا يدركه كثيرون، وهو يضع في حسبانه المخاطب، فقد تشكلت لديه قناعات راسخة غير قابلة للميل إلى هذا الجانب أو ذاك، فهو في كل جانب، والقارئ الكريم يذكر انتسابه إلى كل السلف الصالح، ولكل بصيغة تجمع ولا تفرق، وفي هذه الخطب المنبرية الموجهة للناس، وفي الكتاب الموجه للقارئ يقف الكاتب بجلاء ووضوح عند قضايا إشكالية يجتزئها الناس، ليصنع صورة متكاملة تجعل هؤلاء الخلفاء الراشدين في جملتهم لوحة متكاملة للمجتمع الفاضل العملي الإسلامي، فلو اقتدينا بكل واحد وأهم ما وصلنا عنه نصل إلى الصورة المجتمعية الإسلامية التي لا خلاف فيها، بل هو التكامل القائم على التخيّر والاصطفاء، لا على الإقصاء.
ولعل أهم ما يقف عنده المستمع إلى الخطبة لو سمعها، أو القارئ لها في هذا الكتاب الذي وصل إلى 580 صفحة من القطع الكبير، وما حملته من متن وهوامش، من خطبة وتوثيق يكتشف الحصافة وسداد الرأي في انتقاء الصفات التي تسعى قبل كل شيء إلى بناء مجتمع من خلال هذه المنارات، فهو لا يعود إليهم ليملأ فراغاً ووقتاً، ولا ليعيش في الماضي ويعيدنا إليه، ولا ليجعلنا نتحسّر، فهو أخذ من كل شخصية نقاطاً يمكن أن تغير حياتنا ومجتمعنا إلى الأفضل، من التربية إلى الزهد إلى الافتداء، وفي عناوين الخطب ما يدل على غايته، فإن كان الراشدون الأربعة الأوائل خارج سياق الناس العاديين وهم من الصحبة المبشرين فإن عمر بن عبد العزيز كما يرى الأستاذ الدكتور أحمد بدر الدين حسون يكشف عورات زماننا، ويؤكد إمكانية النهوض لهذه الأمة من جديد، ويكفي أن نقرأ ما أورده من أخبار صحيحة، وردت في كتب صحيحة لنعلم أي نوع من المنارات اختار، وأي مواقف وقف عندها.
بقي أن أقول: عند سماعي لبعض هذه الخطب، وحضوري بعضها وقراءتها أستشف فلسفة الخطابة عند الدكتور حسون، فالخطبة الثانية ليست استراحة ودعاء وحسب، بل قد تحمل موضوعاً معاصراً له مساس مباشر بالخطبة الأولى متن الخطبة وأساسها.
(الخلفاء الراشدون) كتاب جديد في نهجه وطرحه، سواء بين كتب المنابر، أو بين الكتب المؤلفة المستخلصة من الكتب القديمة، كتاب بمنهجية سليمة تسعى لاستلهام ما يلزمنا، واتباع ما يوحدنا، وإهمال ما يفرقنا، كتاب يختلف عن الكتب التي تحمل مسميات مقاربة، لاختلاف النهج والتفكير والغايات، ويجدر بنا أن نقف عند هذه الشخصيات من هذا الطرح مهما كان رأينا واعتقادنا.
سيرياهوم نيوز1-الوطن