جابر الشعيبي
في الوقت الذي لا تزال فيه معظم الاقتصادات تراقب بحذر مستقبل العملات الرقمية الرسمية، اختارت الإمارات أن تنتقل من مرحلة الترقب إلى مرحلة صناعة المشهد الجديد. فالدرهم الإماراتي الرقمي لا يمثل مجرد تحديث في أنظمة الدفع، بل يعد ولادة نمط اقتصادي ذكي يعيد تعريف المال وسرعة انتقاله وقدرته على تجاوز الحواجز المالية التقليدية التي لطالما عطلت حركة التجارة والتحويلات. ومع هذه الخطوة، تثبت الإمارات أنها ليست مجرد متلقٍّ للتحولات العالمية، بل فاعل أساسي في صناعتها.
منذ إطلاق برنامج البنية التحتية المالية الجديدة عام 2023، تعامل المصرف المركزي الإماراتي مع مشروع الدرهم الرقمي بوصفه تحوّلاً استراتيجياً في شكل النقد ووظيفته، وليس مجرد تجربة تقنية. وقد وضعت الإمارات تصوراً مزدوجاً لعملتها الرقمية يشمل المؤسسات المالية الكبرى والقطاع المصرفي من جهة، وتسهيل المعاملات للأفراد والشركات من جهة أخرى، بما يعزز بنية نقدية مرنة تستجيب للتحولات الاقتصادية المتسارعة، ويتيح استخدامات تمتد إلى المدفوعات الحكومية والتحويلات بين الجهات. وجاءت اللحظة المفصلية عندما نفذت وزارة المالية وهيئة دبي المالية أول معاملة حكومية باستخدام الدرهم الرقمي عبر منصة mBridge، في عملية لم تتجاوز دقيقتين. كانت هذه الخطوة إعلاناً عملياً لدخول الإمارات عصر المدفوعات السيادية الرقمية، وانضمامها إلى شبكة تضم الصين وهونغ كونغ وتايلاند، بينما لا تزال عشرات الدول في مراحل مبكرة من البحث.
وتبرز أهمية هذا التحول عند النظر إلى المشهد العالمي؛ فوفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي لعام 2025 (IMF Policy Paper No. 041)، دخلت العملات الرقمية السيادية مرحلة متقدمة من التطوير أو الاختبار في أكثر من ثلثي اقتصادات العالم، مع انتقال عدد كبير من الدول من مرحلة البحث النظري إلى التجارب الفعلية. ويكشف هذا التحول المتسارع أن النظام النقدي العالمي على مشارف إعادة تشكيل جذرية، ويضع الإمارات في قلب سباق دولي يتسارع فيه الجميع لتحديد مستقبل المال. ففي حين تتقدم الصين عبر “اليوان الرقمي”، وتستعد أوروبا لإطلاق “اليورو الرقمي”، تتعامل الولايات المتحدة بحذر مع مشروع “الدولار الرقمي” بسبب تبعاته العالمية.
وفي هذا السياق، تبرز الإمارات بقدرتها على ربط عملتها الرقمية بمنصات دفع دولية منذ البداية، وهو ما يمنح الدرهم الرقمي دوراً يتجاوز حدود الدولة نحو بيئة مالية إقليمية ودولية متكاملة. ويزداد هذا التميّز وضوحاً مع قابلية البرمجة التي تتيح تنفيذ المدفوعات تلقائياً عند تحقق شروط محددة، ما يفتح الباب أمام عقود ذكية وسلاسل إمداد مالية رقمية ونماذج أعمال جديدة.
ومع اقتراب دخول الدرهم الرقمي مرحلة الاستخدام الواسع، بدأت المصارف في الإمارات والمنطقة بإعادة صياغة نماذج عملها لمواكبة التحول الجديد. وهي تستثمر في تحديث أنظمة المدفوعات، وتطوير محافظ رقمية قادرة على التعامل مع العملة الجديدة، ورفع جاهزيتها في الأمن السيبراني وتحليل البيانات، لتتحول تدريجياً من وسيط تقليدي إلى مزود خدمات مالية رقمية متكاملة تدعم الشركات والأفراد داخل منظومة نقدية أكثر سرعة وشفافية. ومع توسّع المشروع خلال السنوات المقبلة، يُتوقع أن يصبح الدرهم الرقمي جزءاً من الحياة اليومية، سواء في التحويلات الفردية أو التجارة الرقمية أو دفع الرسوم الحكومية. وعلى المستوى الإقليمي، يقدم هذا النموذج للدول الخليجية والعربية، التي لا تزال معظمها في مراحل الدراسة أو التجربة الأولية، رؤية جديدة لبناء الثقة بالنقد عبر التكنولوجيا ومواكبة التحولات المالية العالمية.
في المحصلة، يبدو واضحاً أن الدرهم الإماراتي الرقمي ليس مجرد خطوة في مسار التحول الرقمي، بل محطة مفصلية تعيد صياغة مفهوم المال في المنطقة، وإعلان ولادة اقتصاد نقدي ذكي تتقدم به الإمارات بثقة نحو مستقبل يتشكل الآن، لا بعد سنوات.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
