عبد اللطيف شعبان
منذ عقود مضت كان انتاج الحرير الطبيعي من تربية دودة الحرير، مصدر دخل كبير لآلاف الأسر الريفية في مئات القرى في العديد من المحافظات السورية، وكل ذلك كان بتدبير أسري منزلي، تربية وانتاجا وتصنيعا وتسويقا، إذ كان دور الحكومة ينحصرباستيراد بيوض دودة الحريرالدقيقة وإيصالها للأسر التي تشكل مجموعة المنتجين الصغار في كل قرية، باستقلالية تامة لكل أسرة التي هي المنتج الصغير، وكان بعض التجار يتولون تأمين البيوض لمئات الأسر لضمان استلام الحرير المنتج منهم.
حينئذ كانت مقومات الانتاج موجودة والمتمثلة بوجود أشحار التوت العديدة والمعمرة في حقول المربين، وكانت خبرتهم عالية قي تفقيس البيوض والتعامل مع الديدان الصغيرة، وفق مراحل نموها المتتابع حتى اكتمال الشرانق، المترافق بارتياح نفسي عند جميع أفراد الأسرة، وتعاونهم الكامل في استثمار حالة المنزل بالأفضلية الممكنة لوضع الفرشات الصغيرة والكبيرة – من صنع يدوي محلي بمواد محلية – ليتمدد عليها الدود – بدءا من أيامه الأولى – الذي يتغذى على أوراق أشجار التوت التي كانت تزرعها مئات الأسر لهذه الغاية، وبعض الأسر كانت تشتري الورق ممن يملكون الأشجار – ولكن لم يربوا دودة الحرير – من داخل القرية أو من خارجها، فكثير من المربين لم يكن يكفيهم ما عندهم من أشجار توت, ودودة الحرير تحتاج غذاء من الورق يوميا بشكل متتابع، وأي تأخير يعرضها للموت وخسران موسمها، ما يحفّز المربين لاجتناب أي تقصير أو تأخير قي تأمين ورق التوت، وأتذكر أنني كنت في ستينات القرن الماضي استفيق مع والدي فجرا لنسير مسافة ساعة ونصف في طريق جبلية وعرة، لقطف ورق التوت الذي ارتبطنا بشرائه سلفا من قرية مجاورة، لنؤمن غذاء الدود الذي نربيه، وكنا نعاني من صعوبة ذلك حال كان الجو ماطرا لأن الدود لا يأكل الورق المغطى بالماء، وأتذكر أن ابن عمي اضطر أحد الأعوام للسفر من ريف صافيتا إلى ريف جبلة لتأمين ما نقصه من ورق التوت، علما أن شجرة التوت تعطي موسمَيْ ورق في العام ( فصل الربيع والخريف ) ما يسمح بتربية دودة الحرير مرتين في العام، والطريف في الأمر أن مدة تربية دودة الحرير أربعين يوما ، يحصل فيها المربي على انتاج ذو قيمة كبيرة في أقل مدة.
أيضا مقومات تصنيع الحرير كانت موجودة، ففي أغلب القرى كان يوجد دولاب يدوي أو أكثر لحل شرانق الحرير، لتصبح خيوط حرير بلون ذهني ولا أجمل، على شكر رزمات تسمى كل رزمة خصلة تزن حوالي / 2 كغ /، وكان يوجد في محافظة طرطوس / الدريكيش / معمل حكومي آلي كبير لحل شرانق الحريروبالقرب منه معمل خاص ومثله كان في محاقظة حمص / بلدة عيون الوادي / وكان التسويق مؤمنا إذ كان التجار يتهافتون لشراء الحرير من منزل المربي، والكثير من المنتجين كانوا يخزنونه لعدة أعوام – غير قابل للتلف – و كثيرا ماكان يقال عن فلان أنه غني لأن صندوق منزله ملآن حرير، وكان في مدينة حمص سوق خاص لتجار الحرير الذين يشترونه من المربين القادمين إليه.
لكن السياسات الاقتصادية المخربة التي اعتمدتها الحكومات السابقة الفاسدة خلال العقود الماضية، أسفرت عن تراجع كبير وخطير في هذه التربية، حتى انتهت بشكل شبه كلي منذ سنوات عديدة ، والمؤسف أن ذلك ترافق بالقضاء شبه الكلي على شجرة التوت، المتميز خشبها بجودته لصناعة الأثاث الخشبي المنزلي، وبعد مضي سنوات على شبه القضاء الكلي على انتاج الحرير الطبيعي، تتجدد بين حين وآخر الدعوة لا ستعادة هذا الانتاج، هذه الدعوة التي يتم اجترارها منذ سنوات خلت، من المهتمين – المشكورين – المتفهمين والمقدرين للأهمية الاقتصادية الكبرى لانتاج الحرير، ولكن دون الوصول إلى نتيجة حتى تاريخه.
مجدّدا وفي إطار البحث عن مشاريع استثمارية إنتاجية تعود بالنفع على الفلاحين في مختلف المحافظات يطرح مدير العلاقات العامة في الإتحاد العام للفلاحين ( مشكورا ) إقامة مشروع لإنتاج الحرير الطبيعي لإعادة إحياء هذه المهنة التراثية العريقة في سورية، من خلال تكثيف زراعة أشجار التوت وتربية دودة الحرير في المحافظات السورية، ودعم سلاسل القيمة لهذا النشاط من التربية إلى التسويق، حرصا من الاتحاد على إقامة هذا النوع من المشاريع الإستثمارية، وغيرها من المشاريع المدرَّة للدخل، والتي تسهم في إيجاد فرص عمل للفلاحين، وتعزّز من قيمة الإنتاج الزراعي وتحسّن جودته والإرتقاء به نحو الأفضل.
ومع تقديري العالي لهذا الاهتمام الجديد وما سبقه من اهتمامات، أرى صعوبة كبيرة في استعادة انتاج الحرير لأن أشجار التوت أصبحت قليلة جدا وزراعتها مجددا يحتاج سنوات لانتاج الورق، وجميغ المتقنين للتربية أدركهم الموت حزانى على ما خسروه، ولا خبرة متوارثة والجيل الجديد ليس من النمط الذي يتأقلم مع تربية دودة الحرير لا نفسيا ولا منزليا، والتركيبة المنزلية في هذه الأيام تختلف عن المنازل السابقة أيام زمان، وليس من السهولة إشادة بناء جديد خاص للدود، ودواليب حل الحرير اليدوية التي كانت منتشرة في قرى المربين اندثرت، ومعمل حرير الدريكيش الحكومي مخرَّب وتم إلغاؤه والمعامل الخاصىة أصبحت تالفة ومن المنسيات، فاستعادة التربية المنزلية غاية في الصعولة لفقدان مقوماتها ماديا وبشرياً ، والمشروع الكبير يحتاج لمستثمر مليء يبدأ من الصفر في مساحة كبيرة لزراعة الأشجار حتى تنتج الورق، وأبنية تصمم خصيصا لتربية الدود وأيدي عاملة مدربة، ودولاب أو أكثر أو معمل ألي صغير لحل الشرانق في كل مشروع، وأما التسويق الرابح فمضمون حكما حال تحقق الانتاج، فهل سيقدم المسثمرون على تعددهم وتنوعهم لهكذا مشاريع الممكن – بل الواجب – وجود واحد منها على الأقل في كل بلدة كان أهاليها يربون دودة الحرير قديما.
يبدو أن مدير العلاقات العامة في الإتحاد العام للفلاحين ( مشكورا ) قد قدم لمحة موسعة عن عمل مشروع إنتاج الحريرالمراد إقامته في سوريا ، مستعرضا الجدوى الإقتصادية للمشروع، مع الأجهزة والمعدات المطلوبة، مع القيام بدورات تدريبية مهنية للفلاحين مربي دودة الحرير في مناطق الإنتاج، والأمل بمتابعة ما وصل إليه من سهولة في التنظير لتحقيق ما يرنو إليه من خلال المزيد من النجاح في التدبير، وكم يحتاج الوطن لبناء ما تهدم.
الكاتب:عضو جمعية العلوم الاقتصادية – عضو مشارك في اتحاد الصحفيين
(موقع اخبار سوريا الوطن-1)