حيان سليم حيدر
أن أتكلّم عن سليم الحص، فهو شرف لي وهو طبيعي وإن كان ما سأقوله سيبقى جزءًا مقصِّرًا من كلّ.مع مرور السنين، يُرضيك أن تدرك، ولو بعد حين، أنك مع هذا الذي يقول الصحّ، ويفعله ويبقى في مجاله.
ما يأسرك في علاقتك مع سليم الحص، الأخلاق أولًا .. وباقي الخصال تنهمر ولا تتّسع لها الصفحات. والمجموعة التي تتحلّق حوله تحاول جاهدة أن تثبت لنفسها مقولة: كما تكونوا يُولّى عليكم! علّها تنجح مع رجل دولة من طراز نادر في مجتمع بقي من دون دولة.
سيرته السياسية حرص هو على توثيقها وتأريخها وتحقيبها شخصيًّا، كلّ حقبة سياسية في حينها، في ما يزيد على عشرين مؤلّفًا، وبلغتين.
مع سليم الحص، أنت تعمل في منظومة أخلاقية كاملة. أخلاق في الفكر والقرار والتصرّف وحتى في الظنّ، وأنت تعلم أنّ جلّ من لا يخطئ، لكنّك تعمل معه على قاعدة أنّ ما لا يُدرَك كلّه لا يُترَك جلّه. ثمّ إنّ عليك إجراء فحص ضمير ذاتي، دوريًّا، بغية التماهي مع طريقة عمله، ودائمًا في سبيل الحقّ والمصلحة العامة. هو تحدٍّ تتمتّع بواسطته بـ”تأنيب الضمير” مع ضمير الإنسان. أنت تقرأ بإعجاب في تهذيبه الجمّ في التعاطي مع الآخرين. فطلبه المحال الى مرؤوس له، موظف في الإدارة، فيه حكمًا لغة التهذيب مرفقة بتنويه بوجوب الحرص على تطبيق القانون ومراعاة الأصول.
ومن طبيعة أدبه أنه، وبعد عِشْرة ما يقارب نصف قرن، وكلّما هممنا بالخروج من باب الغرفة، ما زال يدعوك للمرور أمامه.
في المسؤولية العامة سيبقى قوله: “يبقى المسؤول قويًّا حتى يطلب أمرًا لنفسه” الدرس العِبْرة البعيد المنال.
لقد أسّسنا معًا ندوة العمل الوطني ومن بعدها منبر الوحدة الوطنية كجامعة لنخبة وطنية من مستقلّين وليس كحزب.
وفي العلاقة السياسية معه أذكر ما قاله لي صديق، أكاديمي وإعلامي، أن أكثر ما يرضيك في أن تكون مع سليم الحص هو أنك تحسّ بالتمايز لأنّك حرّ وتبقى صاحب رأي وأنت تنتمي بقناعة تامّة الى مجموعته التي ضمّت فيمن ضمّت مَن فهم أنه يمكن أن تكون صديقًا لحكم القانون وأنّ النزاهة “مش عيب”.
ومن دروسه في الممارسة الديموقراطية أنّه عندما كنّا نختلف على موقف سياسي معيّن، كان يطلب بأن يشطب الموقف حرصًا منه على توافق الجميع، فيصدر موقف المنبر بما وافقنا عليه حصرًا. ولكن كان عليك أن تتفاجأ أن يصدر الموقف المختلف عليه في اليوم التالي من مكتبه وباسمه الشخصي وليس باسم المجموعة. نعم، هي دروس راقية في الديموقراطية.
ولأنّ دماثة الأخلاق لا يمكن أن تغيّر عنده في صلابة الموقف، يقول:
” مشكلة لبنان، لا بل معضلته، أن المسؤول فيه غير مسؤول” (2017)، ثمّ: “أضحى مجرمو الحرب من نجوم الساحة السياسية يحاضرون في العفّة ويُتحِفوننا بالحِكَم اليومية” (2005). أمّا رأيه في تعديل الدستور: “الطائف ليس نهاية الطريق، وإنّما هو الطريق. هو الطريق الى مستقبل أفضل” (1994)، وفي القضية، وما أدراكم ما القضية اليوم، يقول: “قاطعوا البضائع الإسرائيلية، ليس لأنّها مسمّمة بل لمجرّد أنها آتية من عدوّ للشعب والوطن والأمّة (2012). وأين نحن من ذلك كلّه؟ ثمّ يُردِف: “إنّ الصهيونية حركة استعمار واستغلال وهيمنة … و(يتوجّه الى العرب بالقول)… قلّما مرّ في التاريخ أمة تطالب بنصف حقّ، الحقّ يكون واحدًا متكاملًا أو لا يكون”.
أقوال واضحة قوية والشهود عينها شاهدة… مواقف لا مواربة ولا مجاملة فيها لرجل لاعنفي بامتياز.
ومن المواقف السيادية أنّه لا يتجاوز صلاحيات الغير ولا يسمح للغير بتجاوز صلاحياته، والأمثال بقيت كثيرة.
ولكن، في الوقت نفسه، ودائمًا، هو الحريص على الدولة، على الناس، فاسأل كيف كان يجد الحلول لتسيير شؤون الناس متجاوزًا حساسية وجود حكومتين في ذاك الزمن الغابر.
وأزيد، بعدما تكرّر، على مرّ الزمن، سؤال بعض أهل السياسة والصحافة لي: ما هو سرّ علاقتك بالرئيس؟ والآن يمكنني أن أفصح عن مدى هذا السرّ، وقد أحجمت عن الجواب في الماضي مراعاةً لشعور البعض. الأمر هو أنّك، كما يحتاج كلّ كائن حيّ الى كمية من الأوكسيجين اليومي، قد تحتاج أنت الى جرعة من النقاوة في النفس وفي الفكر وفي تنظيم قراراتك المصيرية، فترى نفسك تزوره تلقائيًّا لتتزوّد بها.
وفي الأمور المالية، لا مكان للخفّة. هناك الامتحان الأصعب. فإن كانت تقديمات أو تبرّعات وما شابه من أفراد أو مرجعيات أو دول، وإن كانت وجهة استعمالها العمل الخيري أو الاجتماعي أو العام، فعليك بلجنة، ويستحسن أن تضمّ مدقّق حسابات، وبنظام مالي وموازنة وكلّ عدّة الشفافية مع حدّ أقصى للتبرّع، فتقرير مالي وقطع حساب. أما إذا بقي مال في الصندوق… فإلى الجمعيات الخيرية فورًا. وإذا أتتك الهدايا على شكل طائرة خاصّة أو سيارة مصفّحة، فإلى الدولة والحكومة مثواها كونها لم تكن لتُهدى له لولا موقعه السياسي.
وعندما يكون الوطن في خطر، ونادرًا ما لم يكن، فلا مراعاة للأمور الشخصية. ولأنّ الوطن ليس فندقًا، لا يغادر مقرّه في المناطق السكنية الآهلة القابعة تحت القصف الى منزله في الدوحة، مخافة من نشر الهلع في نفوس أهل الجوار. وفي حدّة انقسام الناس، ومتى لم ينقسموا؟ الى بيروت غبيّة وبيروت شقيّة، لا ينسى أن يخاطب، في نداء إلى، “أخي في بيروت الشرقية” يطمئنه فيه بانتمائنا جميعًا الى وطن ومصير واحد. ومن ثمّ يخاطب رؤساء الدول في أحلك الأوقات (وما زلنا في العتمة) واضعًا نقاط لبنان على حروف المنطقة بلغاتهم العالمية.
وسرعان ما كان يقاطعه سفراء وموفدون بعض الدول تجنّبًا لمواجهة صلابة مواقفه.
وعندما، في عام 2000، أفهمونا، أهل بيروت، أنهم لا يفهموننا، باقتضاب، سجّل للبنان أنّه رئيس الوزراء الوحيد الذي لم ينجح في الانتخابات، ثمّ تمايز بموقفه معتزلًا العمل السياسي، منصرفًا الى العمل الوطني، باقيًا حريصًا على مصالح الناس والدولة والوطن.
ثمّ أحسّ، مرهفًا، بأن البلاد باتت تقف على فالق سياسي مدمّر، فدعا، قبل أسبوعين من زلزال 14 شباط 2005، إلى اجتماعات موسعة أفضت الى نشوء منبر الوحدة الوطنية وكنّاه بالقوة الثالثة في وجه الاصطفاف العمودي. وبعدها، عندما اندمجت القوتان المتخاصمتان في حكومة واحدة، وليس وحدة، تتقاسمان فيها مصالحمها، أعلن من أمام باب الرئاسة الأولى حذف كنية القوة الثالثة من منبرنا لانتفاء الحاجة إليها.
نعم، نفتقد طرفي النقيض، بين صلابة المواقف والمصيري من المواضيع، وبين ما كان يتخلّلها من ظُرْف كلام وطراوة السِّيَر في فسحات راحة المحارب بين الجلسات الرسمية، تلك المتنفّسات التي كان يُسَرّ بإدارتها.
وفي الطرف الآخر، صلابةٌ لا تلين وموقف لا يراعي، ومن على صفحات الصحف يُقرِّع سليم الحص المسؤولين في مقالة بعنوان: “الدين والطائفية والمجتمع”، واضعًا، بجرأته المعهودة، الطائفية في منزلة خيانة الوطن، أي الخيانة العظمى.
سليم الحص. لقد نشأت سليمًا، وحكمت سليمًا ورحلت سليمًا.. فسلمت يداك.
(سيرياهوم نيوز 1-الاخبار)