- محمد عبد الكريم أحمد
- الأربعاء 24 تشرين الثاني 2021
حاول أنتوني بلينكن، خلال جولته الأفريقية المنتهية للتوّ، إظهار نوعٍ من القطيعة مع سياسات إدارة دونالد ترامب في القارّة السمراء، لاسيما لناحية مواجهة النفوذ الصيني، حيث تُشدّد إدارة جو بايدن على أن «لا تخيير» للحلفاء بين واشنطن وبكين، إنّما عروض «أفضل» يُفترض بالشركاء الأفارقة أن يتلقّفوها. على أن الواضح أن هذه الرؤية، التي لا تزال في طَوْر الصياغة، تعاني شيئاً من التهافت والسطحية، وهو ما يجعلها غير قابلة للإقناع، بدليل تمسّك المسؤولين الأفارقة – إلى الآن – بالاستثمارات الصينية، بوصفها «قشّة نجاة» من العجز الهائل في بلدانهم
أطلقت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، وعوداً كثيرة بتغيير سياسات واشنطن الأفريقية بعد ما اعتبرته «أربعة أعوام من سياسات الرئيس السابق دونالد ترامب، التي ركّزت على إجبار القادة الأفارقة على حسم خيارهم بين العمل مع الولايات المتحدة أو الصين بأسلوب الحرب الباردة التقليدية». وبعد قرابة عام كامل من مقاربة أميركية مضطربة في القارة الأفريقية، لاسيّما جنوب الصحراء، قام وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، بجولة أفريقية (الأولى لوزير خارجية أميركي منذ زيارة ريكس تيلرسون في آذار 2018) شملت ثلاث دول طالما شكّلت ساحة نفوذ أميركي قوي في شرق أفريقيا وغربها: كينيا ونيجيريا والسنغال (15 – 20 تشرين الجاري)، وركّزت على ملفّات متعدّدة أبرزها الحرب الأهلية في إثيوبيا، والفرص الاقتصادية في نيجيريا، والترتيبات الأمنية والاقتصادية في إقليم الساحل وغرب أفريقيا انطلاقاً من السنغال. ولعلّ القاسم المشترك بين جميع هذه الملفّات، مساعي الولايات المتحدة لاحتواء النفوذ الصيني في القارّة، والذي يمثّل الهاجس الأوّل لإدارة بايدن عالمياً. على أن كلمة بلينكن خلال زيارته أبوجا، والتي حملت بحسب مراقبين معالم استراتيجية إدارته في أفريقيا، خلت تماماً – على غير المتوقّع – من هجوم صريح على الصين، وهو ما يُربط بسعي الإدارة الأميركية الجديدة «لإعادة بناء العلاقات الأميركية الدولية»، بعد قطع ترامب الكثير من هذه الصلات.
الأزمة الإثيوبية
شكّلت العاصمة الكينية نيروبي المحطّة الأولى لجولة بلينكن الأفريقية، حيث طغت الأزمة الإثيوبية على أجندة محادثاته، خصوصاً أن زيارته جاءت بعد ساعات قليلة من عودة الرئيس الكيني، أوهورو كينياتا، من أديس أبابا (14 تشرين الثاني)، واجتماعه برئيسة إثيوبيا سهلي-ورق زودي ورئيس وزرائها آبي أحمد، في إطار جهود وساطة منسّقة أميركياً على ما يبدو. على أن تلك التحرّكات لم تفلح، كما ظهر، في إحداث اختراق في جدار الأزمة، بالنظر إلى تحذير بلينكن من أبوجا (19 تشرين الثاني) من أن الحرب في إقليم التيجراي تضع إثيوبيا «على طريق الدمار» الذي يمكن أن يتداعى في أرجاء شرق أفريقيا (في إشارة إلى عدم استجابة آبي أحمد حتى اللحظة للوساطات)، وتنبيهه قبل ذلك إلى خطر توسّع القتال إلى حدّ تهديد «وحدة البلاد وسلامة الدولة»، أي بتعبير آخر الوصول إلى سيناريو «تقسيم إثيوبيا» حال فشل الوساطات الحالية، التي تشتمّ منها أديس أبابا رائحة تخلٍّ أميركي عن شرعية الحكومة لصالح «المتمرّدين».
«حالة الديموقراطية»
حظيت «حالة الديموقراطية في أفريقيا» بمناقشات موسّعة في أبوجا، سواءً لناحية الوضع الداخلي في نيجيريا أو لناحية حالتَي السودان وإثيوبيا بشكل خاص كمثالَين للقارّة الأفريقية. وفي هذا الإطار، تحدّث بلينكن عن أن «نموّ نزعة التطرّف، وتزايد السلطوية، وانفجار الفساد في أفريقيا، يعوّق الديموقراطية». وهو سياق سليم نظرياً، لكنه لا يصمد أمام تفكيك دور الولايات المتحدة و«شركاء» أفريقيا بمختلف هويّاتهم، في استمرار أسباب عدم تحقّق الديموقراطية في القارّة. وفي ما يتعلّق بالسودان تحديداً، أظهر انقلاب المكوّن العسكري على الخطّة التي دعمتها واشنطن لإتمام المرحلة الانتقالية، فشلاً أميركياً ذريعاً في واحد من الملفات التي نجحت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ إدارة بيل كلينتون، في مقاربتها باستراتيجية ثابتة.
وضعت جولة بلينكن اللمسات الأخيرة على بعض الاتفاقات الاقتصادية التي بادرت بها شركات أميركية
الأمن والتسليح والحرب على الإرهاب
شدّد بلينكن على ارتباط صادرات السلاح الأميركي لنيجيريا بقانون «ليهي» الذي يحظر المبيعات العسكرية الأميركية لـ«النظم التي تنتهك حقوق الإنسان» (في إشارة خصوصاً إلى إطلاق النار على المحتجّين السلميين في عام 2020 على يد ما تُعرف بالفرقة الخاصة بمكافحة السرقة «سارس»). لكن بلينكن عاد وأوضح، في إشارة مهمّة إلى فجوات تَسِم سياسات بلاده في هذا الإطار، أنه إذا ارتكبت وحدات معيّنة (كما سارس) هذه الانتهاكات، فإن واشنطن ستمتنع عن منح تلك الوحدات، حصراً دون غيرها، معدّات عسكرية، بل إن الوزير الأميركي طرح إمكانية بيع نيجيريا 12 طائرة «هليكوبتر» مقاتلة، وتخفيف مشروطيات واشنطن في استخدام ذخيرة المعدّات العسكرية التي تورّدها لأبوجا. وفي ما يتّصل بالحرب على الإرهاب في الصومال (حيث تقوم كينيا بدور بارز) ونيجيريا (حيث تُصنَّف جماعتا «الشباب» و«بوكو حرام» وتنظيم «الدولة الإسلامية – إقليم غرب أفريقيا» على اللائحة الأميركية للجماعات الإرهابية)، جدّد مواقف بلاده الرسمية من دون إضافات استثنائية.
التعاون الاقتصادي
أظهرت جولة بلينكن نيّة الولايات المتحدة العودة بقوّة إلى القارّة، سعياً إلى تعميق علاقاتها مع شركائها التقليديّين. إذ ترافقت جولته مع انعقاد الدورة الثانية من الحوار الاستراتيجي الثنائي بين كينيا والولايات المتحدة (17 تشرين الثاني)، استناداً إلى خمسة أسس هي: الازدهار الاقتصادي، والتجارة والاستثمار، والالتزام بتعميق الصلات الاقتصادية، واستكشاف آليات إضافية لتوسيع التجارة الثنائية، والاستثمارات الأميركية في كينيا. كما وقّع الوزير الأميركي، بعد لقائه الرئيس النيجيري محمد بخاري وكبار المسؤولين الحكوميّين (18 تشرين الثاني) اتفاقاً مع الحكومة النيجيرية تُقدِّم بمقتضاه الولايات المتحدة 2.1 بليون دولار لنيجيريا لدعم الرعاية الصحية، والتعليم، والزراعة، و«الحُكم الرشيد». كذلك، تعهّد بلينكن، في ختام جولته الأفريقية في داكار (20 تشرين الثاني)، خلال توقيع عقود تتجاوز قيمتها بليون دولار أميركي، بـ«الاستثمار في أفريقيا من دون فرض ديون غير مستدامة» (في إشارة إلى أزمة الديون الصينية)، واعتبر تلك الاتفاقات جزءاً من جهد بلاده «لبناء البنية الأساسية (في أفريقيا) بصفقات شفافة ومستدامة».
احتواء النفوذ الصيني
أمّا في سياق التنافس الأميركي – الصيني، فقد أكّد بلينكن، في صياغة أوّلية وبالغة السطحية في واقع الأمر، أن للولايات المتحدة «آلية (خاصة بها) في التعاون مع أفريقيا تتمثّل في قانون الفرص والنمو الأفريقي» لتيسير دخول الدول الأفريقية إلى السوق الأميركي، وأن الشراكة مع أفريقيا ليست معنيّة بالصين أو أيّ طرف ثالث آخر. وأضاف الوزير الأميركي، في سياق مقاربة مرتبكة لقضايا أفريقية عدّة، أن «الاستثمار في البنية الأساسية أمر جيّد وضروري، لكن أعتقد أنه من الأهمية أن تأخذ الدول (الأفريقية) في اعتبارها، مرّة أخرى، ألّا تُركّز على مجّرد إتاحة الموارد، ولكن كيف تستخدم هذه الموارد فعلياً». والملاحَظ، هنا، تطابُق رؤية بلينكن الأفريقية مع تلك التي بسطها سلفه ريكس تيلرسون في جولته الأفريقية (آذار 2018)، لاسيّما بشأن الموقف من الصين.
ويأتي ذلك فيما اتّسع النفوذ الصيني بشكل هائل في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر لأفريقيا جنوب الصحراء، ووصل التمويل الصيني لمشروعات البنية التحتية في القارة في عام 2019 إلى 20% من إجمالي هذه المشروعات. وفي مقابل المخاوف الأميركية من تمدّد أذرع بكين، لا تزال قناعة القادة الأفارقة راسخة بأهمية الاستثمارات الصينية، وفق ما عبّر عنه وزير الخارجية النيجيري، جيوفري أونياما (18 تشرين الثاني)، برفض الانتقادات (الأميركية) المُوجَّهة للمشروعات الصينية – النيجيرية المشتركة في قطاعات تشييد الطرق وخطوط السكك الحديدية وأنابيب الغاز، وإشارته إلى وجود عجز هائل في بلاده (والدول الأفريقية) في مشروعات البنية الأساسية، وأن الصينيّين مثّلوا فرصة كبيرة لجسر تلك الفجوة.
ما بعد جولة بلينكن
كما ابتدأ بلينكن جولته في عاصمة «أنجلوفونية» بامتياز، وإحدى أهمّ منافذ السياسات الأميركية في القارة الأفريقية، فإنه اختتمها في داكار، معقل الاستعمار الفرنسي السابق والنفوذ الفرنسي الحالي في أفريقيا، مروراً بأبوجا عاصمة أكبر الدول الأفريقية في عدد السكان وأحد أهمّ اقتصاداتها (مع مصر وجنوب أفريقيا بترتيب متغيّر). والظاهر أن هذه الجولة وضعت اللمسات الأخيرة على بعض الاتفاقات الاقتصادية التي بادرت بها شركات أميركية وحكومات الدول الثلاث (كينيا ونيجيريا والسنغال)، وأن الإدارة الأميركية لا زالت بالفعل بصدد صياغة رؤية أوضح إزاء القارّة السمراء؛ إذ لا يمكن بسهولة بلورة أيّ سياسات منعزلة عن سياسات إدارة دونالد ترامب، على رغم التغيّر الشكلي في السلوك الأميركي. وتتّضح تلك الحالة في ما أعلنه بلينكن خلال وجوده في أبوجا، مقرّ «الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس)، لناحية عزم واشنطن على عقد قمّة أميركية – أفريقية «لتعميق الصلات مع القارّة»، من دون أن يقدّم تفاصيل محدّدة حول موعد القمة أو مكانها أو مستوى التمثيل فيها.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)