د. سلمان رَيّا
في ظل التحديات البنيوية التي تواجه سوريا ما بعد الحرب، تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة صياغة منهجية اتخاذ القرار الاقتصادي، ولا سيما فيما يخص تقييم المشاريع التنموية والاستثمارية.
لم يعد من المقبول حصر تقييم الجدوى في العائد المالي المباشر فقط، بل بات من الضروري تبني مقاربة شمولية تُدمج بين الجدوى الاقتصادية بمعناها الضيق، والجدوى التنموية التي تراعي الأثر الأوسع على المجتمع والبيئة.
إذ تُعنى الجدوى الاقتصادية بتحقيق مؤشرات مالية واضحة مثل الربحية، وصافي القيمة الحالية، ومعدلات العائد على الاستثمار. أما الجدوى التنموية، فتتجاوز هذه الأطر لتشمل الأثر الاجتماعي والاقتصادي والبيئي للمشاريع، مثل خلق فرص العمل، والحد من الفقر، وتحسين الخدمات الأساسية، وتعزيز التماسك الاجتماعي.
ورغم ما يبدو من اختلاف بين هذين المفهومين، فإن العلاقة بينهما تكاملية وليست تناقضية. فالمشاريع الناجحة بحق هي تلك التي تحقق أثرًا اقتصاديًا وتنمويًا في آنٍ واحد. غير أن الواقع السوري يشهد، في كثير من الأحيان، هيمنة للمقاربات الاقتصادية الضيقة، حيث يجري التركيز على الربحية قصيرة الأجل، فيتم تهميش المناطق الأكثر هشاشة، ويتعمق التفاوت الجغرافي والاجتماعي.
إن البيئة الاستثمارية في سوريا تتسم بتعقيدات مركبة نتيجة الحرب، والانهيار المؤسسي، وركود الأسواق، وتدني القوة الشرائية. كما يشكّل التفاوت التنموي بين المناطق عاملًا إضافيًا يؤثر في عدالة توزيع المشاريع. لذلك، فإن اعتماد معيار الربح وحده يؤدي إلى تكريس اقتصاد ريعي يفاقم الإقصاء ويُفرغ التنمية من مضمونها الحقيقي.
في هذا الإطار، تبرز أهمية دمج الجدوى التنموية ضمن أدوات التقييم الاقتصادي. فاعتماد مؤشرات الأثر الاجتماعي والبيئي في مرحلة دراسة الجدوى، يُسهم في إعادة توجيه الاستثمارات نحو المناطق والمجتمعات الأكثر احتياجًا، ويدعم العدالة المجالية.
إضافة إلى ذلك، تشير تجارب دولية عديدة إلى فعالية اللامركزية الاقتصادية كآلية لتعزيز التنمية المتوازنة. إذ يؤدي توسيع صلاحيات الجهات المحلية، وتمكينها من اتخاذ قرارات اقتصادية تتناسب مع خصوصياتها، إلى تحسين كفاءة تخصيص الموارد وتعميق المشاركة الشعبية. وهذا لا يستوجب نقلًا كاملاً للسلطة، بل يستدعي خطوات تدريجية مدروسة في تفويض الصلاحيات ودعم قدرات الوحدات المحلية.
ومن أجل تطبيق هذا النموذج المتكامل في السياق السوري، يُقترح اعتماد إطار تقييم مزدوج يأخذ في الحسبان الجدوى الاقتصادية والجدوى التنموية معاً، مع تحديد أوزان معيارية لكل منهما حسب طبيعة المشروع. كما ينبغي وضع حوافز ضريبية ومالية، وتسهيلات إجرائية، لتعزيز الاستثمار في القطاعات والمناطق ذات الأولوية التنموية، وخصوصًا المناطق الريفية والمحرومة.
وتكتسب الشراكة بين القطاعين العام والخاص أهمية استراتيجية في هذا السياق، إذ يمكن للقطاع العام أن يتحمّل الجزء الأكبر من المخاطر، فيما يضطلع القطاع الخاص بالتنفيذ والخبرة التشغيلية. وتزداد أهمية هذه الشراكات في المشاريع التي لا تتمتع بجاذبية مالية فورية، لكنها تحمل أثرًا اجتماعيًا بالغًا.
ولا يقلّ أهمية عن ذلك تمكين المجتمعات المحلية من المشاركة في تحديد أولوياتها التنموية. فالمشاركة المجتمعية لا تُعزز فقط من فعالية المشاريع، بل تُعطيها شرعية محلية وتُسهم في استدامتها على المدى البعيد. ويمكن ذلك من خلال آليات تشاركية في التخطيط واتخاذ القرار، وتوسيع أطر المشاورة المحلية.
ومن الأمثلة التطبيقية التي تترجم هذا التوجه: مشاريع إعادة إعمار البنية التحتية الحيوية مثل المستشفيات والمدارس في المناطق المهمّشة، أو مشاريع الطاقة المتجددة التي توفّر فرص عمل وتحمي البيئة، أو مشاريع تطوير الموارد المائية والزراعية التي تُعزّز الأمن الغذائي. فمثل هذه المشاريع، وإن لم تكن مغرية من منظور الربح السريع، فإنها تُنتج أثرًا عميقًا ومستدامًا في حياة الناس.
ويقتضي قياس الجدوى التنموية اعتماد مؤشرات كمية ونوعية دقيقة، مثل عدد فرص العمل المستحدثة، نسبة استفادة الفئات المهمشة، الأثر البيئي، مدى استدامة المشروع بعد انتهاء فترة التمويل، ومستوى المشاركة المجتمعية. وتُدرج هذه المؤشرات ضمن منظومة التقييم إلى جانب المؤشرات الاقتصادية التقليدية، لتكوين رؤية أكثر توازنًا وعمقًا.
وفي هذا السياق، يبرز دور المانحين الدوليين والمنظمات متعددة الأطراف في تمويل المشاريع التي تحقق أهدافًا تنموية لا تستقطب الاستثمار الخاص بسبب ضعف مردودها المالي. كما يمكنهم تقديم ضمانات للمخاطر، ودعم بناء القدرات الوطنية والمحلية، ما يُعزّز استدامة النتائج.
في المحصّلة، إن إعادة إعمار سوريا لا ينبغي أن تُقاس فقط بالأرقام والمؤشرات الاقتصادية الصرفة، بل بمدى قدرة المشاريع على ترميم النسيج الاجتماعي، وتحقيق العدالة المجالية، وتمكين الإنسان السوري من إعادة بناء حياته بكرامة. إننا بحاجة إلى إعادة التفكير في منظومة الاستثمار والتخطيط، لتُصبح أكثر شمولية وعدالة واستدامة. فالجدوى الحقيقية تبدأ حين يكون الإنسان – وليس الربح وحده – في صلب القرار الاقتصادي.
(موقع اخبار سوريا الوطن الالكتروني-1)