آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » الدم السوري واحد… فكيف يختلف الحِدادْ؟

الدم السوري واحد… فكيف يختلف الحِدادْ؟

د. سلمان ريا

 

في شباط من هذا العام، هزّ تفجير مدينة منبج، وأودى بحياة أبرياء سوريين، لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا في لحظة القتل. يومها، لم تتأخر الدولة عن إصدار بيان رثاء يصفهم بـ”الشهداء”، ويؤكد أن ما جرى “عمل إرهابي جبان”، ويختمه بالترحم الصريح على أرواحهم، في خطاب وطني حمل، ولو ظاهرياً، ما يشير إلى احتضان رمزي لألم السوريين، بلا تمييز ظاهر في الموت أو الحزن.

 

ثم جاء يوم الأحد، 22 حزيران، حاملاً نبأ تفجير دموي في كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق. التفجير أوقع ضحايا سوريين أبرياء أيضاً، لا يختلفون في دمهم أو وجعهم عن ضحايا منبج. لكن بيان الدولة هذه المرة بدا وكأنه صادر عن جهة مختلفة. الضحايا لم يُطلق عليهم وصف “شهداء”، بل اكتُفي بتسميتهم “ضحايا”. لم يُوصَف التفجير بـ”الإرهابي”، بل بـ”الإجرامي”، وكأن هناك خفوتاً متعمداً في اللهجة. وحتى الرحمة، تلك الكلمة التي قد تُهدى مجاناً لكل ميت، غابت، لتحل محلها “التعازي لأسر الضحايا”.

 

قد يرى البعض أن الفروقات لفظية، وأن السياسة لا تُقاس بالمفردات. لكن في وطنٍ نهش خطاب التفريق نسيجه لعقود، يصبح للكلمات وزن الرصاص، ولغيابها صوت مخيف لا يمكن تجاهله. الفارق بين “شهيد” و”ضحية” ليس لغوياً فقط، بل ثقافياً، اجتماعياً، وربما أخلاقياً أيضاً. إنه الفرق بين أن يُنظر إليك كمن مات في سبيل الوطن، أو كمن مات في الهامش.

 

المدهش أن الحدثين وقعا في نفس العام، بفارق أشهر، وفي مناخ أمني متقارب. التفجيران استهدفا مدنيين، لكن خطاب الدولة تبدّل، وتبدّلت معه درجة التكريم والاعتراف. لا حجة هنا لاختلاف السياق، ولا مبرر في الزمن أو التفاصيل، إلا إذا كان الاختلاف في هوية الضحايا، لا في طبيعة الجريمة.

 

أكثر ما يؤلم أن تنزلق الدولة – التي يُفترض بها أن تكون مظلة لكل مواطنيها – إلى خطاب يُقسّم الموتى، في وقت ينبغي أن تكون فيه أكثر حرصاً على لحمة مجتمع هشّ ومثقل بالانقسامات. فإذا كان الموت، كما يقول الشاعر التركي ناظم حكمت، “عادلاً”، أفلا يجدر بالحياة، أو على الأقل بمن يدير شؤونها، أن تسعى للعدل؟

 

“إذا كان الموت عادلاً، فيجب أن تكون الحياة عادلة”، كتب الشاعر التركي، ونحن نعيدها اليوم ونحن نقرأ بياناً لا يرى الضحايا على درجة سواء، ولا يرى في رحيلهم سبباً مشتركاً للحزن أو التأمل أو الوحدة.

 

تأمل هذه المفارقة: يُستشهد المواطن هناك، ويُرثى، وتُدان الجريمة بأقسى العبارات، بينما يُجرّد المواطن هنا من صفة الشهادة، ويُسكب عليه صمت بارد، لا ترحم فيه ولا نبرة وجع. أي رسالة تُرسل إلى الناس حين يرون هذا التفاوت؟ هل يُقال لهم: موتكم ليس واحداً، ولا حزننا عليكم متساوٍ؟ أليس في ذلك تهديد لتماسك ما تبقى من خيوط الانتماء والكرامة؟

 

نحن شعب أنهكه التمييز، والتصنيفات، والفرز القسري حتى في حق الحياة والموت. نطلب اليوم من الدولة ألا تحرم أبناءها من أقل الحقوق: الإنصاف في الكلمة، والمساواة في الوداع الأخير. لا نطلب منها معجزات، ولا عدالة كونية، بل مجرد عدالة لغوية، تساوي بين ضحية وضحية، بين أمٍّ ثكلى وأخرى، بين دمعة في الدويلعة ومحردة، ودمعة في منبج وإدلب، وأخرى في القامشلي والبوكمال، وعلى امتداد الجغرافيا السورية.

 

السوري لا يسأل عن دينه حين يُقتل، ولا يوصي أن يُحتسب في خانةٍ معينة. السوري يسقط، ويحلم في لحظة السقوط أن هناك دولة ستكرّمه بما يليق به كمواطن، لا أن تتفرّق عليه البيانات كما تفرّقت عليه الهويات، و اختلفت درجات التشييع والعزاء.

 

في غياب هذه العدالة، لن يبقى لنا سوى أن نكون – نحن الشعب – أوفياء لفكرة الوطن التي لا تُفرّق بين مسلم ومسيحي، أو بين من ينتمي إلى أيّ مكوّن من الفسيفساء السوري الجميل، بين شهيد وضحية، بين اسم في بيان وآخر سقط في النسيان.

 

فلنكن نحن السوريين أوفى لبعضنا مما تريده الحكومات لنا. لنترحم نحن على من يُحرَم من الرحمة، ونعزّي نحن من لا يجد العزاء في الخطابات الرسمية. الرحمة لا تحتاج إلى تفويض من أحد، والتضامن لا يُوزّع على أساس الطائفة.

 

الله يرحم الجميع، منبج ودمشق، المسلمين والمسيحيين، وكل سوريٍّ سقط وهو يحلم بوطنٍ لا يُفرّق بين الناس، حتى في الموت.

والعزاء، كل العزاء، لهذا الوطن الذي نبحث عنه جميعاً… ونحلم أن ندركه في القريب العاجل.

(اخبار سوريا الوطن-١)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

كيف تفكّر إيران بالردّ؟

  ابراهيم الأمين   حسناً، حصل ما كان يتوقّعه كثيرون. قصفت أميركا إيران، ونفّذت ما كان مخطّطاً منذ لحظة الاتفاق بين واشنطن وتل أبيب على ...