زهير حليم أندراوس
“لو خيّروا العرب بين دولةٍ دينيّةٍ ودولةٍ علمانيّةٍ لاختاروا الدينيّة وذهبوا للعيش في العلمانيّة”. (د. علي الوردي، مفكرٌ عراقيٌّ).
أولاً وقبل كلّ شيءٍ أعترف وأقّر بأنّني كإنسانٍ عربيٍّ فلسطينيٍّ علمانيٍّ، أطمح بدولةٍ لشعبي الفلسطينيّ تكون عربيّة، حرّةً، ديمقراطيّةً وعلمانيّةً، تفصل بين الدين الدولة/السياسة، وبكلماتٍ أخرى تكون دولة مواطنة، أيْ أنّ المواطن هو صاحب الحقّ الأوّل والأخير في تقرير مصير بناء الدولة والسير بها نحو التقدّم والحضارة، كما أنّه من واجبي القول والفصل إنّ حريّة الأديان يجِب أنْ تكون مكفولةً في دستور الدولة العتيدة، بهدف حماية الأقليات ودفعهم نحو المشاركة الكاملة في الحياة السياسيّة والعامّة أيضًا.
***
السؤال الذي يجِب أنْ يُطرَح وبقوّةٍ في هذه العُجالة: هل نموذج الدولة الدينيّة نجح في أيّ بقعةٍ من هذا العالم، بغضّ النظر عن أيّ دولةٍ دينيّةٍ نتحدّث، إسلاميّة، مسيحيّة أوْ يهوديّة؟ بطبيعة الحال الجواب هو النفي القاطع، لأنّ الدّين الذي نحترمه، ونحترم ضدّ كلّ مَنْ يقتدي به، ولكنّنا نرفض التزمت الدينيّ، لا يُمكِنه بأيّ حالٍ من الأحوال أنْ يمنح المواطن في هذه الدولة أوْ تلك الحريّات الأساسيّة التي يرجو كلّ عاقلٍ أنْ يحصل عليها في هذه الحياة الفانية. ولا غضاضة في هذه العُجالة العودة إلى الشهيد البطل، أنطون سعادة، مؤسس الحزب القوميّ السوريّ الاجتماعيّ، الذي ارتقى دفاعًا عن فلسطين ومقولته المأثورة: “لسنا ضدّ الأديان ونحترم حقّ كلّ إنسانٍ أنْ يُعانِق الدين الذي يؤمن بها، ولكن عندما يتجاوز الدين، أيّ دينٍ، حدود معبده يتحوّل لسلطةٍ ديكتاتوريّةٍ قمعيّةٍ، وهذا ما نرفضه جملةً وتفصيلاً”.
***
التاريخ لا يكذِب وجميع المُحاولات لإعادة كتابته مصيرها الفشل المحتوم، وفي هذا السياق يقول كارل ماركس “إنّ التاريخ يُعيد نفسه مرتين، مرّةً على شكل مأساةٍ، ومرّةً على شكل مهزلةٍ”، وما نراه الآن هو المهزلة، ومن المُهِّم في هذه السياق التأكيد أنّ أوروبا كانت تئِّن تحت حكم الكنيسة الكاثوليكيّة الرجعيّة والوحشيّة، التي لم تتورّع عن إطلاق العنان لمحاكِم التفتيش الإجراميّة، لقمع الشعوب والتفنّن باستبدادها، وارتكبت جرائم يندى لها الجبين من أجل تكريس هيمنتها، كما أنّ الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها محاكم التفتيش لا تقِّل خطورةً وفظاعةً عن الجرائم التي ارتكبتها (داعش) في سوريّة والعراق وفي أماكن أخرى، وبقيت القارّة العجوز تُعاني الأمرّين من هذا البطش الدمويّ حتى ثارت ثائرة الشعوب الأوروبيّة على طغيان الكنيسة، وكانت الثورة التي قادها (البروتستانت)، وهي كلمة لاتينيّة معناها الاحتجاج، ومنذ أنْ تمّ تحجيم دور الكنيسة الكاثوليكيّة، انتقلت أوروبا قاطبةً إلى الـ “عصر الذهبيّ”، وها هي اليوم ديمقراطيّات مُتقدّمة ومُتطورّة، بصرف النظر عن مواقفها المُنحازَة لدولة الاحتلال الإسرائيليّ، وبغضّ الطرف عن أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة كانت وما زالت، ووفق كلّ المؤشّرات، ستبقى مؤسسةً رجعيّةً بامتيازٍ، ولكنّها بعيدة جدًا عن دوائر صُنع القرار.
***
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا السياق: هل التعصّب الدينيّ هو السبب المفصليّ، الذي فتح الباب على مصراعيه لاستباحة أمّة الناطقين بالضاد؟ هل عدم فصل الدين عن الدولة-السياسة، هو أحد الأسباب المركزيّة للهجمة الاستعماريّة الشرسة علينا بهدف تمزيقنا وتفتيتنا؟ وهل التعصّب الدينيّ هو السبب المركزيّ أوْ المفصليّ أوْ الثانويّ لبقاء الأمّة العربيّة مُتخلّفة؟ وأكثر من ذلك، هل التزمّت الدينيّ سيقودنا عاجلاً أمْ آجلاً نحو العصور الحجريّة؟
***
قبل الإجابة على السؤال المطروح، نرى لزامًا على أنفسنا إجراء مقاربة أوْ مقارنة، أوْ الاثنتين معًا، بين الأمّة العربيّة وبين شعوب أمريكا اللاتينيّة، في محاولةٍ متواضعةٍ لوضع الأصبع على الجرح النازف: فلا يُخفى على أحدٍ، ولا يجب أنْ يُخفى على كائنٍ مَنْ كان، بأنّ شعوب أمريكا اللاتينيّة، ذاقت الويلات وعانت الأمرّين من أنظمة الحكم الفاشيّة والاستبداديّة، التي كانت مدعومةً قولاً وفعلاً، ماديًا ومعنويًا، من بلد الشياطين الجدد، أمريكا، التي عملت دون كللٍ أوْ مللٍ على تكريس هذه الحالة، لأنّها تصّب في مصالحها الإستراتيجيّة والتكتيكيّة معًا، ذلك أنّ هذه الدول تقع في الساحة الخلفيّة لواشنطن. مُضافًا إلى ذلك، فقد لعبت الكنيسة الكاثوليكيّة، كعادتها، دورًا مُهّمًا في وأد الثورات، وهو موقفُ يؤكّد أنّها اصطفّت إلى جانِب أعداء الشعوب، وبات عارها يسير عاريًا، وما زال، ووفق كلّ المؤشِّرات سيبقى.
***
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الأخطر لماذا لم تتمكّن رأس الأفعى، أمريكا، من تأسيس وتشكيل تنظيماتٍ وحشيّةٍ وبربريّةٍ في أمريكا اللاتينيّة على شاكلة (داعش)؟ أوْ لنسأل بصورةٍ أكثر صريحة: هل لأنّ هذه الشعوب المسيحيّة-الكاثوليكيّة، على الرغم من أنّها متدينةً جدًا، قررت أنّ احترام الدين وتعاليمه لا يتناقض بالمرّة مع تطلعاتها إلى الحريّة والاستقلال؟ ذلك أنّه خلافًا لما يجري في الوطن العربيّ، حيث يتحالَف الـ “مُفكّر” مع الـ “مُكفّر” لإرهاب الشعوب؟ وأكثر من ذلك، لقد صدق مَنْ قال إنّ هناك بونًا شاسعًا بين أمّة مشغولة بتفسير الأحلام وبين أمّة تعمل على تحقيقها. أوْ بكلمات المُفكِّر مصطفى محمد: “لا تتأمّل خيرًا من أمّةٍ اتخذّت من العادات والتقاليد دستورًا لها، حيث فيها الجهل يُغطّي العقل خوفًا من مُواجهة الفكر”.
***
علاوةً على ما ذُكِر أعلاه، أؤمن إيمانًا قاطعًا بأنّ هيمنة الخطاب الدينيّ المُتشدّد والأصوليّ على الأجندة العربيّة، ولا نقصد الدين الوسطيّ والمُتسامِح، أعادنا سنوات إلى الوراء، وجاء على حساب تقهقر الخطاب القوميّ العربيّ الوحدويّ، وبالتالي نجزِم أنّه دون فصل الدّين عن الدولة-السياسة، لا أمل لهذه الأمّة بالنهوض، واللحاق بركب الحضارة، وأرفض رفضًا قاطِعًا المقولة إنّ الأنظمة الحاكِمة في الوطن العربيّ ديكتاتوريّةً، وبالتالي فإنّ أيّ مُحاولةٍ من قبل الشعوب للثورة من أجل الوصول لدولة المواطنة مصيرها الفشل المحتوم.
***
وعندما نقول فصل الدّين عن الدولة والسياسة، لا نقصد، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ الإساءة لهذا الدّين أوْ ذاك، فالدّين لله والوطن للجميع، العلمنة هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الأمّة العربيّة من الطائفيّة المُستوردة ومن المذهبيّة المُصنعّة في بلادنا، أيْ أنّها إنتاج محليّ، وغنيٌّ عن القول إنّ الطائفيّة والمذهبيّة، وهما من صناعة الاستعمار، هدفهما تمزيق المجتمع بالوطن العربيّ، وهو المُمزق أصلاً، واستمرار هذه الحالة ستقود الأمّة العربيّة إلى المزيد من الصراعات الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة، وهي صراعات تخدم المثلث المُعادي الذي تقوده واشنطن وذيلها دولة الاحتلال والدول العربيّة الرجعيّة، ولا نتجنّى على أحدٍ إذا جزمنا بأنّ سوريّة، قلب العروبة النابِض، بحُكامها الجُدُدْ، وقعت في الفخّ الذي نصبته لها الإمبرياليّة والرجعيّة، بالتعاون مع “هيئات التحرير”، وفقط للتذكير حتى اندلاع ما تُسّمى بالثورة عام 2011 كانت سوريّة دولة اكتفاءٍ ذاتيٍّ، ونُنهي لن ينجح تحويل سوريّة لدولةٍ دينيّةٍ، لأنّ القوى الرجعية المحكومة من الاستعمار هدفها القضاء نهائيًا على هذا البلد العربيّ، الذي لم يعترف بإسرائيل.
اخبار سورية الوطن 2_راي اليوم