لجين عصام سليمان
يجب أن تعيش في الصين طويلا وتخالط شعبَها الطيب والنشيط والُمسالم، حتى تفهم بعضاً من فلسفات هذه الحضارة الضاربة جذورها في عمق التاريخ الإنساني، فهنا للعلاقة مع الخالق والكون والانسان والمجتمع خصوصية، قد يفهمها البعض خارج الصين بأنها أقرب الى الالحاد، بينما هي تنطلق من جوهر الأديان وروحها اذ أن هدفها الأسمى هو سعادةُ الفرد وحسنُ علاقته مع الآخرين ومدى مساهمته في بناء المُجتمع. غالبا ما نجد في الصين، إبداعات صنعها فنّانون كبار توحي بعظمة الفلسفات الروحية التي استند اليها هذا الشعب الفريد كي يحمي تراثه ويتجدّد وينهض بالمجتمع والاقتصاد، لتصبح البلاد في طليعة دول العالم. ومن هذه الابداعات مثلا التماثيل التي تُجسّد فلسفاتٍ وأفكاراً هي في صلب هذه البلاد وفي جذور حضارتها. وقد توفّرت لي الفرصة مؤخرا لزيارة بعضَ هذه المتاحف التي يتناغم فيها الحجر مع الفلسفة مع الطبيعة والكون. في جنوب غرب الصين وتحديدا في مقاطعة “تشونشينغ” تقع منحوتات موقع “دازو” الصخرية والتي تعود الى القرن السابع الميلادي، تجمع ما بين الثقافات “الكونفوشسية” و”التاوية” و”البوذية”، حيث تتجلّى الثقافة والتراث بأبهى الصور والحلل. نحتها فنّانون مبدعون ماهرون، ولوّنوها بما يناسب الفكرة والمحيط، والتاريخ، والثقافة، والحضارة. كأنما التاريخ ليس قصة تروى فقط وإنما أحجار تجسّد حضارة تتجدّد مع كل عصر. أو تثبّت أفكارا قديمة لتبقى سرمدية، على غرار مفهوم “التقمّص” البوذي الذي جاء على شكل منحوتة تشرح دورة الحياة. لا يقتصر المكان على تماثيل فقط، بل يضم حدائق وبحيرات تمتدّ على مساحات كبيرة، يقصدها زوّار ينتمون إلى معتقدات مختلفة، وما إن تحاول أن تسأل أحدهم أي فلسفة صينية يفضّل أو يشعر بالانتماء اليها حتى تسمع الجملة تقريبا نفسها تتردّد على ألسنة الصينيين: “أنا أنتمي إلى الصين كلها، أنا أنتمي إلى الحزب الشيوعي.. إنّه يمثّلنا” أوضح استطلاع للرأي أجراه مركز “غالوب” الأمريكي عام 2015 أن 90% من الصينيين يعدّون أنفسهم ملحدين بالمعنى الديني المُتعارف عليه عالميا، لكنهم متمسّكون بالفلسفات الروحية ذات البُعد المجتمع والعائلية ومنها التي ذكرناها أعلاه، ثم إن الثقافة السائدة بين السكان اليوم تقوم على فكرة مفادها ضرورة الانطلاق من الفلسفة الدينية حياتيا، وترجمتها على أرض الواقع لبناء الصين. وفي تاريخ الصين الحديثة ثمّة من يأخذ بهذه الحكمة كما يقول الإصلاحي “كانج يو وي”: “إعرف حكمة القدماء وعايش العصر. الأديان الصينية أو بالأحرى الفلسفات. تقول الحكمة الصينية القديمة ” إذا لم تقارن فأنت لا تعرف”، والمقارنة هنا تعني احتواء التناظر والتشابه والاختلاف، وعموما تبحث الفلسفة “الكونفوشيوسية” في العلاقة ما بين الفرد والمجتمع والدولة، بالإضافة إلى كيفية اتباع قواعد النظام العام. وقد أعطت اهتماما بالعائلة ودورها في بناء المجتمع. كانت علاقة كونفوشيوس بالدين معقدة، فلا هو اعتبر نفسه رسولا، ولا أحبّ مناقشة المسائل الدينية. يُروى في كتاب “الفكر الصيني من كونفوشيوس إلى ماوتسي تونغ” لمؤلفه “هيرلي غليسنر كلير” أن طالِباً سأل كونفوشيوس مرةً عن كيفية خدمة الأرواح فأجابه: “إذا كنت عاجزا بعد عن خدمة الناس فكيف تستطيع أن تخدم الأرواح”. وعندما سأله أحد طلابه أيضا عن الموت قال: “إذا كنت لم تفهم الحياة بعد، فكيف تستطيع أن تفهم الموت”. أما الفلسفة “البوذية” فتركز على علاقة الإنسان بذاته وبمن خلق الكون. ويمكن القول إنّ رسالة الفلسفة البوذية هي التركيز على الوعي لأنه بحسب أتباع هذه الديانة فإنه بالوعي يولد الإنسان من جديد. أما “الفلسفة التاوية” فهي تعالج علاقة الإنسان بالوجود والحياة، ولاسيما من خلال التناغم الكلّي بين داخل الإنسان وخارجه، وصولاً للانسجام الكلي مع الكون، أي الوصول إلى مرحلة “التاو”، وهذا الأخير هو عبارة عن درجة التوازن والتكامل بين طاقتي الوجود أو ثنائياته، وذلك عن طريق الين واليان (اليانغ)، (العلاقة بين السالب والموجب) وهي أقرب إلى المؤنث والمذكّر والبارد والساخن، بحيث لا يمكن أن يوجد طرف دون نقيضه، فالليل لا معنى له دون النهار، والذكر دون الأنثى، هكذا تتجاور وتتوازن وتتكامل الأضداد في انسجام بديع. وإذا كان اليان دليلاً على صفة الذكورة، فإن الين هي صفة الانوثة. ويعدّ لاوتسهأو لاوتسو مؤسّس الفلسفة التاوية، ولاو تعني “الأستاذ” وقد عاصر لاوتسه كونفوشيوس، ويذهب البعض إلى أن لاوتسه أكبر من كونفوشيوس بنحو 50 عاماً ولهذا يعدّونه الفيلسوف الأول. ووفقا لدراسة صدرت عام 2015 عن المركز الوطني للدراسات والبحوث التابع لكلية الفلسفة في جامعة الشعب، فقد تمّ تصنيف الديانتين البوذية والطاوية كديانتين هرمتين، إذ تجاوزت نسبة من هم فوق سن الستين من العمر 54.6% للبوذيين و 53.8 بالنسبة لأتباع التاوية. أما اليوم فيُجمع معظم الصينيين على احترام حق الاعتقاد لكل فرد، والانطلاق من الاعتقاد الجيد لبناء قاعدة مشتركة مع الآخر، وذلك بغية تشكيل الإنسانية وفق قواعد السلام والربح المشترك للجميع، فليس المهم أن تعتقد بديانة معينة بقدر ما يهمّ أن تكون صالحا لنفسك ومجتمعك
(سيرياهوم نيوز ٦-لعبة الامم٢٧-٥-٢٠٢٢)