د.وائل عبد الكريم
مقدمة
غالبًا ما تُفهم قصة “ذبح الابن” في القرآن على أنها تجسيد للطاعة المطلقة، لكن قراءة دقيقة للنصوص تكشف أنها ليست قصة طاعة لأمرٍ إلهي صريح بالقتل، بل قصة تأويل لرؤيا، واختبار للتسليم، وتعطيل للفعل قبل وقوعه.
الآيات تكشف أن الله لم يأمر إبراهيم بالذبح، بل ابتلاه بمنام، وترك له ولابنه حرية التأويل، ثم أوقف الذبح ومدحه على صدق النية لا على تنفيذ الفعل.
1. الرؤيا لا تعني الأمر
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ﴾
﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾
إبراهيم لم يقل: “أُمرتُ أن أذبحك”، بل: “أرى في المنام”، والابن لم يقطع بوجود أمر، بل قال: افعل ما تؤمر، كصيغة افتراضية، لا جزمية.
هذا يدل على أن الرؤيا لم تكن أمرًا مباشرًا من الله، بل إشارة رمزية تحتمل التأويل.
2. استشارة النبي لابنه: نفيٌ لوجود أمر إلهي مباشر
﴿فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ﴾
لو كان ما رآه إبراهيم أمرًا من الله، لما استشار ابنه، لأن النبي لا يُستشار في وحي.
ولكنه سأله عن رأيه، مما يدل على:
• أن إبراهيم لم يتيقّن أن ما رآه أمرٌ من الله.
• وأنه فتح باب التأويل، والتفاعل المشترك في اتخاذ القرار.
كما أن ردّ إسماعيل جاء بصيغة غير قاطعة: “افعل ما تؤمر” أي: إن كنت مأمورًا حقًّا، فافعل.
3. “صَدَّقْتَ الرؤيا”: التصديق لا التنفيذ
فعند تعطيل الذبح، قال الله:
﴿يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ولم يقل: نفّذت أمري، بل استخدم صيغة “صَدَّقْتَ” بالتشديد، لا “صَدَقْتَ”، ما يدل على: أنك صدّقت الرؤيا وظننتها أمرًا، ولم تكن هي أمرًا إلهيًا مباشرًا.
التصديق هنا اجتهاد إنساني، لا تنفيذ لوحي، ولهذا لم يقع الذبح، بل أوقفه الله في اللحظة الحاسمة.
4. الله لا يأمر بالقتل بلا ذنب، لو كان الذبح أمرًا من الله: لما جاز تعطيله، ولكان عدم الذبح عصيانًا.
لكن الذي حصل: الذبح لم يقع، والله عظّم الاستجابة النفسية لا الفعل، واعتبرها بلاءً مبينًا في الوعي والتأويل، لا في سفك الدم:
﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾
أي أن الفداء لم يكن بقتل الابن، بل بترسيخ مبدأ الرحمة، وذبح وهم القربان الدموي.
5. الذبح لا يُسند إلى الإنسان في القرآن: دلالة لغوية تُفكك المفهوم
في كل مواضع القرآن، لم يُسند فعل “ذَبَحَ” بصيغته الصريحة إلى الإنسان إلا في حالة واحدة على لسان فرعون وجنده:
﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ (البقرة، القصص)
وقد جاء الفعل بصيغة “يُذَبِّحُونَ” المروّعة، لا “يذبحون”، في سياق القتل الوحشي الجماعي، لا الطاعة الدينية.
أما حين يتعلّق الأمر بالإنسان الصالح، فالله لا يذكر الذبح أبدًا بوصفه مطلوبًا.
بل في لسان العرب ومعاجم اللغة، يُستخدم فعل “ذبحه” مع الإنسان أحيانًا بمعنى مجازي:
“ذبحه بالمدح”: أي بالغ في مديحه حتى أفسده وأهلكه معنويًا.
ومن هنا نفهم أن إبراهيم، حين أراد أن يذبح ابنه بناءً على رؤيا ذاتية، كاد أن يحمّله معنى لا يُحتمل، ويُنزله منزلة لا يريدها الله.
فكان الفداء – لا بكبش كما توارثناه – بل بتصحيح التأويل، ورفع الابن إلى مقام النبوة والثناء الحق، لا القربان البشري.
خاتمة: الله يربّي لا يذبح
قصة الذبح في القرآن ليست نموذجًا للطاعة العمياء، بل درسٌ في التأويل النبوي، والاختبار الوجودي، والنية الصادقة.
الله لم يأمر إبراهيم بالذبح، بل اختبر مدى تسليمه حين التبس المعنى.
وفي اللحظة الحاسمة، أوقف الفعل، ومدح النية، وأعلن أن القربان المقبول هو: الوعي والصبر والوفاء، لا الدم كما نفعل نحن.
كل عام ونحن وانتم بوعيٍ أكبر وصبر عظيم
(اخبار سوريا الوطن ١-صفحة الكاتب)