الذكاء الاصطناعي، هذا المصطلح الذي يتردد صداه في كل ركن من أركان حياتنا اليومية، يبدو وكأنه يحمل في طياته الوعد بالخلاص أو التهديد بالدمار. في كل مجال، من الطب إلى التعليم، ومن الصناعة إلى الترفيه، نجد الذكاء الاصطناعي حاضرًا بقوة. لكن وسط هذا الانتشار الواسع، تتزايد التساؤلات المثيرة للجدل: هل يمكن لهذا الذكاء الاصطناعي أن يحقق نموًا اقتصاديًا مستدامًا أم أنه مجرد فقاعة انتقالية ستنفجر قريبًا؟
ومع كل فرصة جديدة يفتحها الذكاء الاصطناعي للابتكار والإبداع، يظل هناك خوف مستمر من تأثيره على سوق العمل المستقبلي. هل سيكون سببًا في القضاء على الوظائف التقليدية، أم سيوفر فرصًا جديدة تعزز من الإبداع وتفتح آفاقًا غير مسبوقة؟
تتعدد الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية التي يثيرها الذكاء الاصطناعي، حيث يتساءل البعض عن دوره في تفاقم الفجوة بين الطبقات الاقتصادية. فما مدى تأثير هذه التقنيات على نمط حياتنا اليومية، وعلى العلاقات الاجتماعية، وهل سيخترق الخصوصية ويهدد الأمان الشخصي؟
هذه التساؤلات لا تزال تثير الفضول والغموض، بينما نبحث عن إجابات وافية وسط التحولات السريعة في عالم الذكاء الاصطناعي.
ما هو الذكاء الاصطناعي؟
الذكاء الاصطناعي (AI) هو مجال في علوم الكمبيوتر يهدف إلى تطوير أنظمة تستطيع حل المشكلات المعرفية التي تتطلب ذكاءً بشريًا مثل التعلم والإبداع والتعرف على الصور.
تجمع المؤسسات الحديثة كميات هائلة من البيانات من مصادر متعددة، مثل أجهزة الاستشعار الذكية والمحتوى الذي ينشئه المستخدمون. يهدف الذكاء الاصطناعي إلى إنشاء أنظمة ذاتية التعلم تستخلص المعاني من هذه البيانات وتستخدمها لحل مشكلات جديدة بطرق تشبه الإنسان.
يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي التفاعل مع المحادثات البشرية، وإنشاء محتوى أصلي، واتخاذ قرارات مستندة إلى بيانات فورية. يمكن دمج هذه القدرات في تطبيقات الأعمال لتحسين العمليات وتجارب العملاء وتسريع الابتكار.
أكثر الدول تتبنى الذكاء الاصطناعي في العالم
الدول العشر الرائدة عالميًا في مجال التسلح بالذكاء الاصطناعي، بناءً على مجموعة من المعايير، تشمل سنغافورة وألمانيا والولايات المتحدة والسويد وإستونيا والمملكة المتحدة وكندا وإسرائيل والصين وكوريا الجنوبية. هذه الدول تتفوق على غيرها في تطوير وتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يجعلها في طليعة الابتكار والتقدم في هذا المجال.
تأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد وفق نظرة خبراء
تسلط تقارير “بيزنس إنسايدر” الضوء على تأثيرات الذكاء الاصطناعي على أسواق الأسهم، وتركز بشكل خاص على “وول ستريت” والطفرة الهائلة التي تحققها أسهم شركات الذكاء الاصطناعي. تتوقع التحليلات السابقة لخبراء السوق ارتفاعًا ملحوظًا في مستويات المؤشرات الأميركية والاقتصاد الأميركي بسبب هذه الطفرة. يتوقع رئيس الأبحاث في Fundstrat، توم لي، زيادة في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 إلى 5200 هذا العام، بينما يتوقع غولدمان ساكس أن يزيد الذكاء الاصطناعي الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 1.5% خلال العقد المقبل. من جهة أخرى، يعتقد جين مونستر من شركة Deepwater Asset Management أن السوق الصاعدة المدفوعة بالذكاء الاصطناعي ستستمر لعدة سنوات. تشير هذه التوقعات إلى الزخم المتزايد الذي يثيره الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد الأميركي، مما يعزز الاعتقاد بأنه ليس مجرد هوس قصير المدى بل يمثل تطورًا دائمًا للاقتصاد.
أسهم الذكاء الاصطناعي
في عام 2023، شهدت أسواق الأسهم تطورًا هائلًا، خاصة في قطاع التكنولوجيا، نتيجة لظهور تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي. ارتفعت قيمة الأسهم المرتبطة بهذه التكنولوجيا بشكل ملحوظ، حيث ارتفع مؤشر ناسداك بنسبة 43.3% بعد أن انخفض بنسبة 33% في العام السابق. شهدت شركات مثل “إنفيديا” نموًا هائلًا بنسبة 245.9%، وكانت من بين الشركات الرائدة التي دفعت بارتفاع السوق. لم يكن هذا النمو مقتصرًا على “إنفيديا” فحسب، بل ارتفعت أسهم شركات أخرى مثل AMD وArista وCloudflare بنسب مذهلة أيضًا. هذا النمو يعكس الاهتمام المتزايد بتطبيقات الذكاء الاصطناعي وتأثيرها الإيجابي على مختلف الصناعات. من المتوقع أن يستمر هذا النمو في السنوات القادمة، حيث يزداد الاعتماد على التكنولوجيا في تطوير الحلول وتحسين الأداء في العديد من القطاعات الصناعية.
تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل؟
وفقًا لتحليل أجراه صندوق النقد الدولي، يشير الى احتمالية تأثير الذكاء الاصطناعي على نحو 40% من فرص العمل حول العالم. كريستالينا جورجيفا، المديرة العامة للصندوق، أشارت إلى أن هناك احتمالات لتفاقم مشكلة عدم المساواة في العمل بسبب الذكاء الاصطناعي. ومن الواضح أن هناك حاجة للسياسات التي تعالج هذه القضية دون زيادة التوترات الاجتماعية. الدراسة أوضحت أيضًا أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر بشكل أكبر في الوظائف في الدول المتقدمة، ويمكن أن يؤدي إلى زيادة إنتاجية العمال في بعض الحالات.
تقرير من غولدمان ساكس يُتوقع أن يحل الذكاء الاصطناعي محل ما يصل إلى 300 مليون وظيفة بدوام كامل عالمياً خلال العقد القادم، مما يعادل نسبة 8.5% من القوى العاملة العالمية. هذا التأثير يُعتبر ملحوظًا خاصة في البلدان النامية التي تعتمد على العمالة غير الماهرة.
وظائف قد يحل الذكاء الاصطناعي محلها:
محلل بيانات: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل البيانات بسرعة وفعالية، وتقديم توصيات دقيقة بناءً على النتائج.
مطور برامج وتطبيقات: يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات تطوير البرمجيات والتطبيقات لتحسين الأداء وتحسين تجربة المستخدم.
مهندس ميكانيكي وروبوتي: يمكن للروبوتات المدعومة بالذكاء الاصطناعي تنفيذ مهام متعددة في الصناعات التصنيعية والتجارية.
محلل تحليلات السوق: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل الاتجاهات في السوق وتوقع المستقبلات بناءً على البيانات الاقتصادية والاجتماعية.
طبيب تخصصي: يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الأطباء في تشخيص الأمراض وتحديد العلاجات الفعالة بناءً على معالجة كميات كبيرة من البيانات الطبية.
مدير موارد بشرية: يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين عمليات التوظيف وإدارة الأداء وتطوير الموظفين من خلال تحليل البيانات الخاصة بالموارد البشرية.
محلل أمن المعلومات: يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في كشف ومنع الهجمات الإلكترونية وتحليل السلوكيات الغير مرغوب فيها على الشبكات.
مصمم جرافيكي ووسائط متعددة: يمكن للذكاء الاصطناعي إنشاء وتحرير الرسومات والصور والفيديوهات بشكل آلي بناءً على الأساليب والتقنيات المستخدمة.
محلل تمويل واقتصاد: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل البيانات المالية وتوقع الاتجاهات في الأسواق المالية بدقة وفعالية.
مهندس بيئي: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل البيانات البيئية وتوجيه الجهود لحماية البيئة وتحسين الاستدامة.
وبالطبع، هناك بعض الوظائف التي قد يكون من الصعب استبدالها بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي نظرًا للطبيعة البشرية لهذه الوظائف والمهارات الناعمة المطلوبة. إليك بعض الأمثلة على هذه الوظائف:
العناية الصحية: يحتاج مجال الرعاية الصحية إلى تفاعل بشري مباشر وتقديم رعاية شخصية للمرضى، وهو شيء لا يمكن استبداله بالكامل بالتكنولوجيا.
التدريس والتعليم: يتطلب التعليم تواصلًا بشريًا مباشرًا وفهمًا عميقًا لاحتياجات الطلاب وتقديم الدعم والتوجيه الشخصي.
الإبداع والفنون: يعتمد الإبداع والفنون بشكل كبير على الخيال والإحساس البشري، وهو شيء لا يمكن للتكنولوجيا محاكاته بالكامل.
الإرشاد النفسي والمشورة: يحتاج الأشخاص إلى التفاعل مع مستشارين نفسيين ومرشدين للحصول على الدعم العاطفي والمساعدة في حل المشاكل الشخصية.
العلاقات العامة والتواصل الاجتماعي: تتطلب هذه الوظائف فهمًا عميقًا للعلاقات الإنسانية والقدرة على التفاعل بشكل فعال مع الآخرين.
الخدمة الاجتماعية: يتعامل العمال الاجتماعيون مع الناس المحتاجين إلى الدعم والمساعدة الاجتماعية، وهو شيء يتطلب الحساسية البشرية والتفاعل الشخصي.
الإدارة الاستراتيجية وصنع القرارات: يعتمد صنع القرارات الاستراتيجية على الرؤية والتحليل البشري، والتي قد لا تكون قابلة للتحقيق بشكل كامل بواسطة الذكاء الاصطناعي.
الأبحاث الأكاديمية والعلمية: يعتمد البحث العلمي على الإبداع البشري والتفكير النقدي، والذي لا يمكن للتكنولوجيا أن تحل محله بالكامل.
هذه فقط بعض الأمثلة، وهناك العديد من الوظائف الأخرى التي قد تظل مقاومة للاستبدال بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي بسبب العوامل البشرية والمهارات الناعمة المطلوبة.
الذكاء الاصطناعي قد يحدث فجوة بين الدول النامية والمتقدمة
تشير الدراسات إلى أن التكنولوجيا الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات، قد تزيد من الفجوة الاقتصادية بين الدول النامية والمتقدمة. هذا يحدث عن طريق جذب المزيد من الاستثمارات والتطور التكنولوجي إلى الدول المتقدمة، مما يؤدي إلى تقليل فرص العمل في الدول النامية وتفاقم العدم المساواة الاقتصادية بينها. ومن المحتمل أن تؤدي هذه الظاهرة إلى زيادة التباعد بين الدول الفقيرة والغنية.
لتفادي هذا السيناريو، يجب على الدول النامية اتخاذ إجراءات لرفع مستوى الإنتاجية وتعزيز المهارات لدي العمال، بحيث تستطيع تلك الدول أن تستفيد من التقدم التكنولوجي دون أن تفقد تنافسيتها الاقتصادية. وبالتالي، يمكن للحكومات والمؤسسات التعليمية في الدول النامية العمل على تطوير برامج تعليمية وتدريبية تهدف إلى تعزيز المهارات اللازمة للاستفادة من التكنولوجيا الحديثة والابتكارات التقنية الأخرى.
بالتالي، يتعين على الدول النامية أن تعمل على تحسين بنيتها التحتية التكنولوجية وتعزيز قدراتها في مجال البحث والتطوير، بحيث تكون قادرة على المنافسة في السوق العالمي وتحقيق التنمية المستدامة.
هل سيؤثر الذكاء الاصطناعي على العلاقات الاجتماعية؟
الذكاء الاصطناعي يوفر فوائد ملموسة للأفراد في مجالات مختلفة مثل العلاقات الشخصية والعمل والصحة العقلية. ومع ذلك، يُحذّر الخبراء من الاعتماد المفرط على التكنولوجيا، محذرين من أن ذلك قد يؤدي إلى تقليل قيمة التواصل الإنساني وزيادة الشعور بالوحدة.
يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين التفاعلات الاجتماعية وتقديم الدعم العاطفي، ومن المتوقع أن يحدث ثورة في مجال التعارف عبر الإنترنت من خلال تحسين المنصات الحالية وزيادة دقة التوافق بين الأفراد.
ومع ذلك، يجب أن يخدم دور الذكاء الاصطناعي زيادة فهم الأفراد لأنفسهم وللآخرين، دون الإضرار بقيمة التواصل البشري الحقيقي. في الوقت نفسه، ينبغي على الجهات المعنية أن تولي اهتماماً بمخاوف الخصوصية والأمان عند استخدام التكنولوجيا الذكية، وتسعى لتحقيق توازن بين الفوائد الجديدة والتواصل البشري الأصيل.
من جانب آخر تناول خبير في مجال الذكاء الاصطناعي مجموعة من الممارسات التي يمكن أن تشكل تهديدًا على خصوصية الأفراد وحقوقهم. بين هذه الممارسات:
التحيز: يمكن أن ينتج عن بيانات التدريب تحيز غير مقصود، مما يعزز التمييز ويزيد من عدم المساواة.
المراقبة: يمكن استخدام التقنيات للمراقبة، ما ينتهك الخصوصية ويقلل من حرية التعبير.
المعلومات المضللة: يمكن استغلال التكنولوجيا لنشر المعلومات المضللة، مما يهدد مصداقية المعلومات ويزيد من الانقسامات.
غياب العدالة: قد يؤدي استخدام التقنيات إلى تطبيق غير عادل، مما يعرض حقوق الإنسان للخطر.
البطالة: قد يؤدي تطبيق التكنولوجيا لأتمتة الوظائف إلى زيادة معدلات البطالة وتفاقم العدم المساواة الاقتصادية.
الخبير يشير إلى أن التقنيات الحديثة في مجال الذكاء الاصطناعي توفر فرصًا للتحسين، ولكن يجب مراقبة استخدامها لتجنب الآثار السلبية على خصوصية الأفراد وحقوقهم.
النهاية، يبقى الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تكنولوجيا، بل يمثل تحديثًا عميقًا في طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع العالم من حولنا.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم