أحمد المديني
أضحى الذكاءُ الاصطناعيّ (ذ. إ) الظاهرةَ والمادةَ والشاغلَ، ثم الأداةَ الأشملَ في مختلف البيئات الثقافية والمؤسسات الأكاديمية ومحافل التفكير، وفي كل القارّات من دون استثناء. لم يعد هذا الابتكارُ التكنولوجيُّ البشريُّ في الوقت الحاضر موضوعَ انشغال علميٍّ في كيفية استخدامه وجدواه، ولا وسواساً فكرياً في محاذيره المختلفة والأخطار المحتملة والمتوقعة القرينة بمواطن تطبيقه وأشكالها؛ لقد تجاوز هذه المرحلة ويكاد يكون قد ذلّل أغلبَ صعابها في البلدان المتقدمة حيث العلمُ ممارسةٌ يوميةٌ وحيويةٌ وليس بهرجاً وظواهرَ عصرية وتزيينية مستوردة.
نعم، إنه الذكاء الذي ترجع جذور ابتكاره مفهوماً وأدواتٍ إلى خمسينيات القرن الماضي على يد جون مكارثي. ثم بعد ذلك سنة 1997 حين تغلّب عقل لـ (ذ. إ) وُضع في الحاسوب (Deep Blue) وانتصر على بطل الشطرنج العالمي. ما تبدّل أكثره هو انتقالُه من محيط اختصاصي ضيق (عسكري ومختبري علمي) إلى مجالات أوسع، ليُتاح للجميع وبشكل كثيف، ما أصبح يثير المخاوف والمحاذير الأدهى، وعلى أكثر من صعيد، وبهذا نجده يشغل تفكير أهم الأوساط البحثية والفلسفية، في فرنسا، مثلاً، المعروفة بغنى تياراتها وسجالاتها، اختفت ليحتل هذا الكائن الجديد الغريب عقول المفكرين، منهم لوك فيري الذي أصدر عنه كتاباً مفيداً بعنوان: “IA . Grand remplacement où complémentarité “Flammarion ,2025” (ذ.إ. إحلال كبير أم تكملة) يعرض فيه أعوص قضايا الموضوع وإشكالاته العُظمى وما بات يطرحه على العالم المعاصر من تحدّيات، مع ما سيتسبب به من موجات بطالة واسعة في سائر القطاعات، منها زوال 300 مليون وظيفة عمل في ظرف وجيز لا تستثني أي ميدان؛ أخوفها حلوله مكان العقل الإنساني وتعويضه البشر في تدبير سائر أمور الحياة إلى حد مثير مجهول.
كتاب لوك فيري ‘الذكاء الاصطناعي إحلال كبير أم تكملة’
كتاب لوك فيري ‘الذكاء الاصطناعي إحلال كبير أم تكملة’
تكاد تتحول هذه المعطيات إلى بديهيات عند المختصين أكثر من الجمهور العام الذي لم يطلع على تفاصيل وأخطار ستنجُم حتمًا عن آلياتِ استخدام الذكاء الاصطناعي وتبعاتِه، ولم تَمسَّ بعد معيشه ومصالحه المكتسبة. بيد أن أخطر ما فيها هو حين تتدخل في تغيير جذري لمنظومة القيم والأخلاقيات (déontologie) المتحكمة في عمله مهنيّاً وسلوكيّاً وعقيديّاً وثقافيّاً، وهذا ما يدخل في التفكير والأساس الخلقي (الإيتيكي) لبنية الاختراعات وصناعة التقدم لدى الإنسان، إذ كانت لها تمظهراتها وتأثيراتها في القرن التاسع عشر حول قطب الثورة الصناعية والرأسمالية التي قلبت موازين الأمور كلها رأساً على عقب، وطوت عهداً وأنجبت فلسفة وآداب وقيماً مغايرة.
هذا ما نريد الوقوف عليه ببعض الإفادات والملاحظات من خلال العدد الجديد الفصلي لمجلة “Enjeux numériques” التي تصدر عن وزارة الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمنة الفرنسية (آذار/مارس 2025). حمل العدد عنوان “من أجل ذكاء اصطناعي مسؤول وأخلاقي”. وتطرق في مجمله إلى المواضيع التالية: أهمية الأفراد في كوكبنا في سياق الذكاء الاصطناعي؛ إذا كان (ذ.إ) موجوداً منذ 1950 فإن التطور الذي حدث بالفعل هو تجربة الاستعمال؛ سماح هذا التطور باستعمال أوسع وأكثر ديموقراطية؛ مظاهر التشابه مع الثورة التكنولوجية السابقة. المهم هو ما ركزت عليه المقاربات الوازنة لباحثين مختصين في مجالات البيئة والاقتصاد والتقنيات، والتعليم، وخصوصاً ما يسمى بـ”الأخلاقيات الدائمة”، إلى جانب إشكاليات أخرى.
عدد ‘من أجل ذكاء اصطناعي مسؤول وأخلاقي’.
عدد ‘من أجل ذكاء اصطناعي مسؤول وأخلاقي’.
بالإجمال هي محاذير ومخاوفُ لدى المختصين ممن يستشرفون الغد الوشيك للتطبيقات الكثيفة والمتسارعة لـ(ذ.إ) ونرى الدولَ المصنعةَ الرأسماليةَ والناميةَ والدول العربية الخليجية أيضاً، في سباق محموم لتشييد مؤسساتها الهائلة. ألم نسمع أخيراً الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلن، بما فاق توقعات ربيبه وقبضته الحديدية إيلون ماسك ،استثمار 500 مليار دولار في مشروع “Star gate” والبرامج الكبرى المعلنة في المؤتمر العالمي في باريس (6 ـ 11شباط/فبراير 2025)؟ هذه أمثلة وعديد غيرها تبرهن الانتقال إلى حقبة جديدة ستظهر فيها مع الإيجابيات والفعالية من قبيل التدخل في مختلف مرافق الحياة العصرية كالتشخيص السريع للأمراض، وشخصنة الإملاءات عن النُّظم الطبية المتنقلة لتشخيص الأعراض وأتمتة اتخاذ القرار؛ تقابلها المظاهر السلبية المقلقة لاستخدامات (ذ إ). أولها: الإضرار بالبيئة، نظراً إلى حاجة الأجهزة الضخمة إلى كميات مائية هائلة للتبريد تتطلب توفيرها على حساب حاجات أوْكَد للسكان. يليها تعدد الحواسيب الضخمة “Big data”، ومشاغل تخزين المعطيات، وما يتصل من حماية، الخ…
الاقتصاد إحدى واجهات الصعوبات بالتأثير الحاسم للذكاء الاصطناعي على قطاعات الشغل. يُجمِع المختصون على أنه لن ينجوَّ أي قطاع، بما سيجرّه من موجات بطالة تشبه الجائحة في ميادين الصحافة، والمحللين، والمحاسبات، والصناعات، والمختبرات، والفنون، والسينما، والترجمة بالسّرعة القصوى والناجعة. ضرب البروفيسور لوك فيري مثال ترجمته الشخصية من الألمانية لفصل من كتاب لإيمانويل كانط إلى الفرنسية استغرق منه أيّاما وأنجزه أحد برامج الذكاء في دقائق وبإتقان، ما يستدعي على المستوى السياسي ضبط قواعد واستعمال لتأطير أفضل لاشتغال المقاولات والشركات بخصوص حماية حقوق العمال وعدم التضحية بالإنسان. ثمة تخوّفٌ كبيرٌ أيضاً في ميدان التعليم إذ أن ( ذ. إ) يهدد بقضاء جذري على طرق التعليم التقليدية، فهذه الثورة التكنولوجية الجديدة لا تتوقف عن الأتمتة (الاستخدام الأوتوماتيكي) بديلًا من التدخل البشري، ويا للمفارقة، هو صانعها وكل الفزع أن تستقلّ بقرارها ذات يوم، تعيد النظر في أدوار المكونين ونوعية التعليم، ناهيك بما بدأ يحدثه على المقدرات الفنية الإبداعية.
تعالوا الآن إلى صميم المخاوف من جهة الرهانات ومن حيث الحرص على المسؤولية وذلك بخفض التأثيرات السلبية بأقصى درجات الفائدة للمجتمع والبيئة وذلك باعتماد بنية مقاربةٍ قائمة على مبادئ إيتيقية مثل الشفافية، والأمن، والإدماج الاجتماعي. من هنا يتعدى نطاق تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تطبيقاتها إلى تحكيم منطق الضبط والمسؤولية تجاه الجماعة. ويبقى القلق من المستقبل هو الغالب عند الراسخين في هذا العلم لا المتطفلين، بطرح سؤال: كيف يمكن ضمان احترام (ذ.إ) للمبدأ الخلقي، والمساواة، والعدالة الاجتماعية وبقاء الموهبة الخلاقة؟ كيف؟
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار