يارا عبود
بين طوفان أوراق الذكاء الاصطناعي وتراجع معايير التحكيم، يتصدّع مفهوم البحث الموثوق. دراسات تُنتج بكبسة زر، وأخرى تنقضها بسرعة أكبر. كيف نميّز العلم الحقيقي من الضجيج؟ وما حدود أخلاقيات المعرفة في زمن السرعة والخوارزميات؟ سؤالٌ يفرض نفسه على الأكاديميين والطلاب وصنّاع القرار، مع تضخم النشر وضغط السباق على الأرقام اليوم
يتسم عالم اليوم بسرعة التطور والتغير. قبل وقت ليس ببعيد، كان خبراء وعلماء العالم يتحدثون عن تأثيرات مجتمع المعلومات وخصائصه، إذ أصبحت المعلومة بمنزلة الثروة.
غير أنّ التحولات المسرعة التي شهدها العالم جعلتنا نستفيق على نوع آخر من التحديات والمتمثل في التحول المفاجئ وهو الذكاء الاصطناعي.
في كل يوم تطالعنا دراسات جديدة تظهر نتائج تعكس الاعتقادات السائدة وتغيّر نظرتنا إلى العالم. لكن المشكلة تكمن في مدى صحة هذه المعلومات كون الذكاء الاصطناعي أسهم بشكل كبير في زيادة عدد الأوراق البحثية. ولكن في كل مرة تصدر أبحاث ودراسات أخرى تكذّب أو تصحح تلك الأبحاث. فكيف بإمكاننا أن نعتمد عليها كمصدر موثوق؟
المشكلة الأكبر تكمن في أنّ هذه النسبة (نتائج مغلوطة) تزداد كثيراً مع زيادة عدد النظريات الخاطئة في مقابل الصحيحة، ومع وجود أخطاء في التجارب البحثية، مثل عدم ملاءمة العينة التي تخضع للتجربة، أو القياسات المستخدمة لمنهج البحث.
إشكالية الفوضى البحثية المدعومة بالـ AI
تشهد أبحاث الذكاء الاصطناعي أزمةً متصاعدة في جودة المحتوى العلمي، وسط تحذيرات أكاديميين من تحوّل هذا المجال الحيوي إلى «سوق مزدحم» بالأوراق البحثية المنخفضة الجودة، في ظاهرة باتت تُعرف بين الباحثين باسم «طوفان السطحية العلمية» (AI slop). إذ يمكنك عبر الذكاء الاصطناعي توليد أبحاث علمية وأفكار بكبسة زر، ما يلغي العنصر الأساس للبحث العلمي وهو الجودة والنوعية.
هذا التضخم المعلوماتي جعل عملية التحكيم العلمي أقل دقةً من المجالات العلمية الأخرى كالكيمياء والطب، إذ تعتمد المؤتمرات غالباً على طلاب دكتوراه ومراجعين شباب لتقييم عشرات الأوراق خلال فترات قصيرة، ما أدى إلى تراجع متوسط التقييمات وظهور شكوك حول استخدام أوراق مولّدة أو محرّرة بالذكاء الاصطناعي.
عادت هذه الأزمة إلى الواجهة وفقاً لتقرير «الغارديان» بعدما أعلن شاب أميركي يُدعى كيفن تشو، عن تأليفه أكثر من 100 ورقة بحثية في الذكاء الاصطناعي خلال عام واحد، منها 89 ورقة مُدرجة للعرض في مؤتمر عالمي بارز في تعلّم الآلة. وتشمل أبحاثه موضوعات متعددة مثل تتبع الرعاة الرحل في أفريقيا جنوب الصحراء باستخدام الذكاء الاصطناعي، وتشخيص آفات جلدية، وترجمة لهجات إندونيسية.
أكد كيفن تشو أنّ الأوراق نتاج عمل جماعي عبر شركته التعليمية (تُدعى Algoverse) التي تقدم برامج إرشادية مدفوعةً لطلاب الثانوية والجامعات. وأوضح أنه يشرف على تصميم المنهجيات وقراءة المسودات النهائية، فيما تستعين الفرق بالأدوات التقنية الشائعة مثل مدققات اللغة ومديري المراجع، وأحياناً بنماذج لغوية لتحسين الصياغة.
مع ذلك، يرى منتقدون أن هذا التبرير لا يفسّر كيف يمكن لشخص واحد أن يضع اسمه على أكثر من 100 ورقة في عام واحد من دون مساهمة علمية حقيقية هادفة، بل فقط كميات من «العلم المزيف».
انتقادات من اختصاصيين
وصف هاني فريد، أستاذ علوم الحاسوب في «جامعة كاليفورنيا بيركلي»، هذه الأوراق بأنها «كارثة»، مشيراً إلى أنّ جزءاً كبيراً منها يعتمد على ما يُعرف بـ«البرمجة الحدسية عبر الذكاء الاصطناعي»، في إشارة إلى الاعتماد المكثف على أدوات الذكاء الاصطناعي لإنشاء الأكواد والأبحاث بسرعة، من دون تحقيق العمق العلمي المطلوب.
شكّل مؤتمر الجامعة اللبنانية صرخةً لمواجهة التحديات المعرفية والتكنولوجية
لا تقتصر المشكلة على حالة فردية، بل تمتد إلى ما هو أوسع، إذ باتت منصات مثل arXiv مليئة بأبحاث غير محكمة تُقدَّم للجمهور على أنّها «علمية»، فيما استخدمت بعض المؤتمرات بالفعل الذكاء الاصطناعي لمراجعة الأوراق، ما أدى إلى تقارير تحكيم مليئة باستشهادات وهمية وملاحظات نمطية.
ويرى خبراء أنّ هذا الواقع خلق فجوةً عميقةً بين الإنتاج العلمي الحقيقي والضجيج المحيط به، حتى إنّ الاختصاصيين أنفسهم باتوا عاجزين عن متابعة ما يُنشر فعلياً.
تختلف معايير مراجعة أبحاث الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي عن معظم المجالات العلمية الأخرى، فمعظم هذه الأعمال لا تخضع لعملية مراجعة الاقران الصارمة التي تخضع لها مجالات مثل الكيمياء، بل تعرض الأوراق البحثية غالباً بشكل أقل رسمية في مؤتمرات وأحد أبرز تجمعات التعلم الآلي NeurIPS. بحسب تقرير «الغارديان»، تعاني مؤتمرات الذكاء الاصطناعي الكبرى، وعلى رأسها مؤتمر NeurIPS، من تضخم هائل في عدد الأوراق المقدمة. فقد استقبل المؤتمر أكثر من 21 ألف ورقة هذا العام، مقارنة بأقل من 10 آلاف في عام 2020.
كما تشير دراسة حديثة صدرت في «الغارديان» (6 ديسمبر 2025) إلى أنّ الطلاب والأكاديميّين يواجهون حالياً ضغوطاً متزايدة لزيادة عدد منشوراتهم ومواكبة أقرانهم. وأفاد الأكاديميون بأنه «من النادر إنتاج عدد من الأوراق البحثية الأكاديمية العالية الجودة في علوم الحاسوب يتجاوز العشرة في المئة، ناهيك بثلاثة أضعاف، في عام واحد».
وفي تعليق لصحيفة «الغارديان»، قال متحدث باسم المؤتمر إن نمو مجال الذكاء الاصطناعي قد أدى إلى «زيادة ملحوظة في عدد الأوراق البحثية المُقدمة، وزيادة في أهمية قبول الأبحاث المُراجعة من قِبل الأقران في مؤتمر NeurIPS»، ما «يُشكل ضغطاً كبيراً على نظام المراجعة لدينا».
فقد استخدم مراجعو ICLR الذكاء الاصطناعي لمراجعة عدد كبير من الأوراق البحثية، ما أدى إلى اقتباسات تبدو وهمية وتعليقات «مطولة جداً ومليئة بالنقاط»، وفقاً لمقال نُشر أخيراً في مجلة Nature.
إن الشعور بالتراجع منتشرٌ على نطاق واسع، إلى درجة أنّ إيجاد حلٍّ للأزمة أصبح موضوعاً للأبحاث نفسها، بحسب «الغارديان». وقد فازت ورقة نُشرت في أيار (مايو) 2025 (نسخةٌ أكاديميةٌ قائمةٌ على الأدلة من مقال رأيٍ صحافي) كتبها ثلاثة علماء حاسوبٍ كوريين جنوبيين، واقترحت حلاً «للتحديات غير المسبوقة مع تزايد عدد الأوراق البحثية المُقدّمة، مصحوبةً بمخاوفٍ متزايدةٍ بشأن جودة المراجعة ومسؤولية المُراجعين»، بجائزةٍ عن العمل المتميز في «المؤتمر الدولي للتعلم الآلي» لعام 2025.
الرابطة العربية أمام إشكاليات الـ AI
في هذا السياق، عقدت «الرابطة العربية للبحث العلمي» وعلوم الاتصال ملتقاها الحادي عشر بعنوان «نحو رؤية مشتركة لعلوم التواصل في زمن الذكاء الاصطناعي» على مدى يومين في كلية الإعلام (الفرع الأول) في الجامعة اللبنانية (اليونيسكو)، برعاية رئيس الجامعة بسام بدران ممثلاً بعميدة الكلية جوسلين نادر، ورئيسة الرابطة مي عبدالله وحضور المديرة العامة في «تلفزيون لبنان» إليسار نداف.
شارك في الملتقى باحثون بأوراق بحثية حول مدى استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وما يتعلق بالمبادئ وأخلاقيات البحث في عصر الذكاء الاصطناعي ومدى ضبط الإشكاليات وتجاوز التحديات والشروط المطلوبة عند استخدام الذكاء الاصطناعي في الأبحاث العلمية. وجاء المؤتمر في وقت يتسابق فيه الباحثون على «تجميع» وامتلاك أوراق بحثية متجاهلين القيمة المضافة للعلم. كما جاء المؤتمر كصرخة لمواجهة التحديات المعرفية والتكنولوجية بوعي وأدوات بحثية مناسبة.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
