ا د هاني الضمور
عندما يخبرنا القرآن الكريم عن خلق آدم عليه السلام، فإنه لا يسرد مجرد قصة، بل يضع أمامنا نموذجًا إلهيًا لبناء الإنسان والحضارات. فالله سبحانه وتعالى بدأ خلق الإنسان بترتيب محكم، يحمل في طياته دروسًا عميقة حول الأولويات التي ينبغي أن تحكم مسيرة البشرية. فقد أعطاه الروح، ثم وهبه العلم والعقل، ثم وفر له الغذاء، وكأن في هذا الترتيب حكمة إلهية تشير إلى أن الحياة لا تقوم على المادة وحدها، بل تبدأ من جوهرها الروحي والفكري قبل أن تصل إلى حاجاتها الجسدية.
يقول الله تعالى: “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” (ص: 72). هذه النفخة الإلهية لم تكن مجرد إحياء جسدي، بل كانت إعلانًا عن قيمة الإنسان الحقيقية، والتي تتجاوز المادة إلى البعد الروحي. فالروح هي التي تمنح الإنسان ارتباطه بالله، وتجعله خليفة في الأرض، وهي التي تؤهله لحمل الأمانة التي عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها. في عالمنا اليوم، نجد أن المجتمعات التي تبتعد عن هذا البعد الروحي تعاني من أزمات هوية، وضياع معنوي، واغتراب نفسي، حتى وإن كانت غنية بالموارد المادية. فالقرآن يؤكد أن الحياة بلا روح تفقد معناها، وأن المادة وحدها لا تحقق الاكتمال الإنساني، كما قال تعالى: “وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” (الحديد: 20).
وبعد أن صار آدم حيًا بنفخة الروح، منحه الله العلم، فقال تعالى: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” (البقرة: 31)، مما يدل على أن المعرفة كانت ثاني ركيزة في بناء الإنسان. فقد كرم الله آدم بالقدرة على الإدراك، ومنحه أدوات التفكير والتعلم، مما جعله متميزًا عن بقية المخلوقات. إن هذه الآية تؤكد أن العقل والمعرفة هما مفتاح الاستخلاف في الأرض، وأن الجهل هو أحد أسباب التخلف والانحطاط، كما أشار الله إلى ذلك في تفضيل آدم على الملائكة بالعلم.
وفي واقعنا، نجد أن الأمم التي تقدمت في ميدان العلم والمعرفة استطاعت أن تقود العالم، بينما تلك التي أهملته عاشت في ظلمات الجهل والتبعية. يقول الله تعالى: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ” (المجادلة: 11)، مما يوضح أن العلم هو طريق الرفعة والكرامة. وحين نقارن بين الدول التي استثمرت في التعليم والتكنولوجيا، وبين تلك التي بقيت عالقة في مستنقع التخلف، نجد أن الفرق واضح بين من اتبع منهج الله في تعظيم العلم، ومن اكتفى بالاستهلاك المادي دون إدراك حقيقي.
وبعد الروح والعقل، يأتي الغذاء ليكمل دورة الحياة، فقد قال الله لآدم وحواء: “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا” (البقرة: 35). وهنا نرى أن الغذاء جاء كمكافأة وليس كأولوية، بمعنى أن الإنسان لم يُخلق ليأكل فقط، بل خُلق ليفكر ويعمر الأرض، ثم تأتي حاجاته المادية في المرتبة التالية. لكن القرآن يلفت نظرنا إلى قضية ضبط الشهوة والجوع المادي، فقد كانت أول معصية للبشرية متعلقة بالطعام، حين أغوى إبليس آدم بالأكل من الشجرة المحرمة. وكأن في ذلك إشارة إلى أن الإنسان حين يقدم حاجاته الجسدية على وعيه الروحي والفكري، فإنه يسقط في الابتلاء.
إن هذه الفكرة تتجلى في واقعنا اليوم، حيث تتحكم المادة والشهوة الاستهلاكية في المجتمعات الحديثة، في حين أن القرآن يدعونا إلى التوازن بين الروح والعقل والجسد، فيقول: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا” (القصص: 77). فالخلل في هذا الميزان يؤدي إما إلى الانحراف المادي، أو إلى الانعزال الروحي، وكلاهما مفسدة لحياة الإنسان.
إن تسلسل خلق آدم لم يكن مجرد ترتيب زمني، بل هو خريطة قرآنية لبناء المجتمعات. فالأمم التي تحافظ على روحها من خلال القيم والأخلاق، وتطور عقولها من خلال العلم، وتدير مواردها بحكمة، هي الأمم التي تحقق الاستخلاف الحقيقي في الأرض. أما الأمم التي تفقد روحها، أو تهمل عقلها، أو تسرف في استهلاك مواردها، فإنها تسقط في الفساد والضياع، كما قال تعالى: “وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ” (المؤمنون: 71).
اليوم، يحتاج العالم إلى إعادة قراءة قصة آدم من منظور قرآني، ليعيد ترتيب أولوياته كما أراد الله: الروح قبل المادة، والعلم قبل الاستهلاك، والحكمة قبل الطمع. فالحضارات التي تقوم على العلم بلا روح، أو على المادة بلا قيم، سرعان ما تنهار، تمامًا كما سقطت حضارات عظيمة عبر التاريخ عندما أهملت البعد الروحي والأخلاقي.
إن قصة آدم ليست مجرد بداية للبشرية، بل هي نموذج قرآني لبناء الأمم. فكما بدأ الإنسان بالروح، فالعقل، ثم الجسد، فإن الحضارات يجب أن تبنى بنفس المنهج: قيم تحكمها، علم يطورها، وإدارة رشيدة لمواردها. وعندما نفهم هذا الترتيب، ندرك أن المشكلة ليست في قلة الموارد، بل في غياب الرؤية القرآنية التي تحفظ التوازن بين الروح والعقل والغذاء.
إن الله قد وضع أمامنا النموذج، والقرآن قدم لنا الدليل، ويبقى السؤال: هل نتبع هذا المنهج الإلهي، أم نكرر أخطاء الأمم التي سقطت لأنها فقدت التوازن بين هذه الأركان الثلاثة؟
اخبار سورية الوطن 2_راي اليوم