آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » الروسفوبيا…. العداء البريطاني لروسيا…(الجزء الرابع والأخير)

الروسفوبيا…. العداء البريطاني لروسيا…(الجزء الرابع والأخير)

| باسل علي الخطيب

 

الصراع العربي الصهيوني، النزاع الهندي الباكستاني حول كشمير، هونغ كونغ و الصين، النزاع التركي اليوناني حول قبرص، نظام الفصل العنصري البائد في جنوب إفريقيا، المشاكل الجيوسياسية التي لا تنتهي في البلقان….

تُرى ما هو القاسم المشترك بين كل تلك النزاعات و المشاكل و الصراعات التي ذكرناها أعلاه؟….

القاسم المشترك الأكبر، بل وقد يكون الوحيد، أن بريطانيا كانت وراءها كلها….

 

أبدعت بريطانيا في صنع الكيانات الوظيفية، التي لعبت دورها التي أُنشئت لأجله، ألا وهو إبقاء مناطق تواجد هذه الكيانات في حالة قلق دائمة، نتحدث هنا عن الكيان الصهيوني، الكيان الأردني، الكيان الوهابي، و بقية مشيخات الخليج، السودان، هونغ كونغ، بنغلادش، سيريلانكا، سنغافورة، إيرلندا الشمالية، دولة جبل طارق، و القائمة تطول…..

 

قد تكون بريطانيا وبسبب تاريخها الاستعماري الطويل، و كون إمبراطوريتها كانت تغطي جزءاً كبيراً من العالم في كل قاراته، قد تكون الدولة الأكثر قدرة على خلق مشاكل جيوسياسية على طول العالم، لا سيما أن الاستعمار البريطاني لم يهتم فقط بنهب ثروات الشعوب التي احتلها فحسب في فترة وجوده، إنما سعى لضمان عملية النهب لأطول فترة زمنية ممكنة، و في سبيل ذلك و هذا أمر تميز به البريطانيون، كانوا يدرسون بكل جدية و حرفية شعوب المناطق التي استعمروها، يدرسونها من كل النواحي، الإثنية و الدينية و الاجتماعية و القبلية والتاريخية والحغرافية و الاقتصادية بل و حتى البيولوجية….

أعتقد أن بريطانيا تمتلك أكبر أرشيف في التاريخ عن كل شعوب العالم من كل النواحي، و مكونات هذا الارشيف كانت تخضع دائماً للدراسة و المراجعة و استخلاص النتائج التي تؤدي إلى خلق نزاعات تحمل صفة الديمومة في المناطق التي احتلوها….

 

يظن البعض أن الكيان الصهيوني هو أكبر مشكلة جيوسياسية تركتها بريطانيا في المنطقة العربية، الحق يُقال أن الوهابية هي المشكلة الجيوسياسية الأكبر التي تركتها بريطانيا في المنطقة، وصولاً إلى الإخوان المسلمين، و الذين خرجت من رحمهم كل التنظيمات الإرهابية المعروفة، والدليل أن الأضرار التي سببتها الوهابية كانت أشد من أضرار الصهيونية، لاسيما بعد ظهور النفط، حيث استطاعت بريطانيا استثمار فائض القوة الديني والمالي هذا لتحقيق مكاسب جيوسياسية على مستوى العالم….

 

لطالما لعبت بريطانيا على العامل الديني في كل مكان، قد يكون أحد أوجه الصراع البريطاني الروسي و الغير المعروف جداً هو الوجه الديني….

الأرثوذكسية في روسيا ليست مجرد ديانة، لطالما لعبت الأرثوذكسية دوراً كبيراً في تكوين الشخصية القومية الروسية، و كانت دائماً أحد عوامل توحيد الأمة الروسية، بل الأهم من ذلك أحد عوامل تعريف الأمة الروسية…

هكذا كان الأمر أيام روسيا القيصرية، و حتى أيام الاتحاد السوفييتي، فرغم التهميش الواضح للدين في فترة حكم الشيوعيين، لم يغفل الاتحاد السوفييتي دور الكنيسة الأرثوذكسية كأحد عوامل القوة الناعمة السوفييتية…

 

و منذ وصول بوتين إلى سدة الحكم في روسيا، أدرك أهمية الكنيسة الأرثوذكسية كعامل أساسي في بنيان الشخصية القومية الروسية، و عامل أساسي في توحيد الأمة و جعلها أقوى، لذلك عمد بوتين إلى إعادة أملاك الكنيسة التي تم تأميمها في فترة الحكم الشيوعي، و قام ببناء الكثير من الكنائس، و جعل الثقافة الأرثوذكسية مادة أساسية في منهاج التعليم الروسي، و تم إفساح المجال عبر وسائل الإعلام للكثير من البرامج الدينية الأرثوذكسية، و بالمقابل بادلت الكنيسة الأرثوذكسية القيادة الروسية و بوتين الاخلاص و الوفاء و الدعم، قد يكون راس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية البطريرك كيريل الحليف الاقوى لبوتين….

 

ثنائية بوتين كيريل تجسد النموذج الحي للشخصية الروسية،  و الحضارة الروسية، بوتين رجل المخابرات القديم و الصلب و البارد صاحب الطموح الجيوسياسي و المشبع بالعقيدة القومية، كيريل ابن الكنيسة التي يعني اسمها الطريق القويم أو المستقيم و التي تعتبر أكثر الكنائس المسيحية تشدداً من ناحية الالتزام الأخلاقي…..

 

أدركت بريطانيا أهمية الكنيسة الأرثوذكسية للدولة الروسية، لذلك سعت أولاً إلى ضربها كأحد أدوات القوة الناعمة لروسيا، و أحد أذرعها الجيوسياسية في الخارج….

يشكل الأرثوذكس الأغلبية في صربيا و بلغاريا و مقدونيا و الجبل الأسود و قبرص و اليونان و جورجيا و أرمينيا و قرابة النصف في أوكرانيا….

نجح البريطانيون في تحييد تأثير الكنيسة الروسية في هذه الدول، و بالتالي التأثير السياسي، رغم أن هذه الدول تربطها مع روسيا علاقات تاريخية قديمة، و لكن على مدى عشرين عاماً تغلغل النفوذ البريطاني و الأمريكي في كل المؤسسات الحكومية في هذه الدول، وصولاً إلى المؤسسات الدينية، و هذا يسجل للبريطانيين….

 

فبلغاريا تعتبر أكثر الشعوب السلافية قرباً من روسيا، بل أن اللغة البلغارية هي أقرب اللغات السلافية مع اللغة الأوكرانية إلى اللغة الروسية، و لكن بلغاريا عضو في حلف الناتو الآن، هذا الأمر ينطبق على مقدونيا، و المفاجيء والصادم انه ينطبق على صربيا، التي بسببها ولأجلها دخلت روسيا الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، هذه دول ليست حليفة لروسيا، رغم أنه يحب أن تكون دول متحالفة معها، بحكم القرب الثقافي والديني والاثني والعلاقات التاريخية….

 

ورغم أن الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو هي وريثة وابنة كنيسة الإمبراطورية البيزنطية( الإمبراطورية الرومانية الشرقية)، إلا أن اليونان ليست حليفاً لموسكو إنما عضو في حلف الناتو…

حتى دول الاتحاد السوفييتي السابق ذات الغالبية الأرثوذكسية، ونقصد هنا جورجيا، تكن العداء الشديد لروسيا، و حدثت بينهما حرب عام 2008، أما بالنسبة لأرمينيا فيجب أن تكون حليفاً بالمطلق لروسيا، إلا أنها في موقع الوسط بين روسيا من جهة و بريطانيا و الولايات المتحدة من جهة أخرى، لذلك كانت روسيا تحجم عن تسليح أرمينيا بالأسلحة المناسبة في نزاعها مع أذربيجان…..

قد يكون من أسباب الخسائر الجيوسياسية التي يتكبدها الروس هنا وهناك احياناً، عائد بالدرجة الأولى إلى عاملين، أن الروس يمتلكون معايير أخلاقية قاسية تناقض مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، أضف إلى أنهم من النوع الذي لايخاطر، و أغلب افعالهم أساساً هي ردود أفعال، وهذا مشكلة بنيوية متأصلة في الشخصية الروسية…..

 

عام 2019 أعلن الرئيس الأوكراني انفصال الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن الكنيسة الأرثوذكسية الأم في موسكو، و الاهم في ذلك أن الانفصال قد تم تصويره على أساس أن ذلك عامل مهم و حيوي للاستقلال الناجز عن روسيا، و قد حصلت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية على التصريح بأنها كنيسة مستقلة قائمة بحد ذاتها من إسطنبول، حيث مقام الكنيسة الأرثوذكسية الاولى و الأساسية في العالم، و لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل زاد الطين بلة اعتراف بابا الأقباط في مصر بالكنيسة الأوكرانية كشخصية مستقلة عن الكنيسة الروسية، لتفقد الكنيسة الروسية حليفاً آخر محتمل لها….

 

على فكرة المعلومات أعلاه تطرح السؤال الازلي التالي، هل الاولوية الانتماء الإثني القومي أو الديني؟؟؟….خذوا على سبيل المثال الصراع الأرمني الاذربيجاني، أذربيجان الشيعية تتحالف مع تركيا ذات الغالبية السنية، وتتخاصم مع إيران الشيعية، علما أن جزءًا لاباس به من الشعب الإيراني من أصول أذربيجانية، ومنهم المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي، وكما أوردنا أعلاه بلغاريا السلافية الأرثوذكسية مثلا التي تجمعها مع روسيا روابط كثيرة جداً، تتحالف مع الغرب الأري البروتستانتي الكاثوليكي، حتى إذا نظرنا إلى الأمر من ناحية المصلحة، فمصلحة بلغاريا أكبر وأهم مع روسيا القريبة، وليست مع بريطانيا أو امريكا البعيدة….

 

نعم، جملة من التعقيدات والتشابكات التي لايمكن فهمها، فالمقدمات الواضحة الموجودة لاتعطي النتائج المتوقعة، وهذا يجعلنا نفسر كل تلك الغرابة بوجود نخب حاكمة عميلة، أو حالة من الروسفوبيا متأصلة عند اغلب شعوب أوروبا…..

 

للمقارنة كل الدول البروتستانتية في العالم ( أمريكا، أستراليا، نيوزيلندا، ألمانيا، الدنمارك، هولندا، السويد، النرويج)حلفاء لبريطانيا….

 

تشكل الكنيسة البروتستانتية الأنجليكانكية رأس حربة في فرض أخلاقيات النيوليبرالية على مستوى العالم، و قد تكون الأرثوذكسية مع الإسلام المحمدي مع البوذية، حائط الصد الأساسي في وجه هؤلاء….

 

يحمل الفصل الأخير من مذكرات وينسون تشيرشل رئيس وزراء بريطانيا 1940-1945، و 1950-1955، اسم الستار الحديدي، هذه التسمية أطلقها تشيرشل بعد أن سيطرت القوات السوفييتية على كل أوروبا الشرقية بعد تحريرها من الألمان النازيين في الحرب العالمية الثانية، هذه التسمية هي في موضع الذم و الانتقاد عن غياب الحريات و الديمقراطية في المناطق التي سيطر عليها السوفييت….

 

تشكل الكنيسة الأرثوذكسية بالنسبة لروسيا ذات الستار الحديدي إياه الذي يحمي الشعب الروسي و الحضارة الروسية من مفاعيل الليبرالية المتوحشة على كل الصعد و تحديداً الأخلاقية، عندما سقط ذاك ( الستار الحديدي) عام 1989 –  1990، بالثورات التي اجتاحت أوروبا الشرقية و ختمت بسقوط جدار برلين، كان الروس و الأوروبيون الشرقيون يظنون إنهم باقتحامهم ذاك السور يلجون إلى الحرية، ليكتشفوا بعد فترة قصيرة أنهم يدخلون ثقافة السوق التي أصبحوا سلعة فيها….

 

و بعد الغيبوبة التي عاشتها روسيا في التسعينات أيام حكم بوريس يلتسن و فريقه، و مع نهاية القرن العشرين قامت المخابرات الروسية بانقلاب أبيض و من دون ضجيج بإيصال بوتين إلى سدة الحكم، و دعمتها الكنيسة، لإنقاذ روسيا من التحول إلى دولة من دول الموز أو الكاكاو…..

 

عام 1966 فازت إنكلترا بكأس العالم للمرة الأولى و الأخيرة، تلك البطولة كانت مقامة على أرضها، و فازت في المباراة النهائية على ألمانيا 4-2، و شهدت المباراة النهائية الهدف الاكثر إثارة للجدل في تاريخ كأس العالم، و هو الهدف الثالث لانكلتراو الذي حسم البطولة لصالحها، سجله جيف هيرست في الشوط الإضافي الأول بتسديدة ارتطمت بالعارضة الألمانية و ارتدت إلى الأرض و لم تتجاوز خط المرمى، و كان الحكم في شك من أمره في احتساب الهدف، حتى استشار حكم التماس الذي أشار بصحة الهدف علماً أن كل الإعادات و التقنيات لاحقاً أثبتت عدم صحة الهدف، حكم التماس كان روسياً، إنجلترا فازت بكأسها العالم الوحيدة بفضل روسيا…..

 

يقال أن التاريخ يعيد نفسه، و هو عندما يعيد نفسه يعيدها بطريقة مضحكة أو مبكية،المضحك أن روسيا ساعدت إنكلترا  في الفوز على ألمانيا كروياً في نهائي كاس العالم، هذا يذكرنا كيف ساعدت روسيا إنلكترا في هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، علماً أن الغزو الألماني لروسيا عام 1941 كان توريطاً بريطانياً للألمان و الروس في حرب طويلة أنهكت الطرفين، و هذا ما حصل، بينما كان كل العالم يتوقع أن يتجه هتلر لغزو بريطانيا، وإذ به يذهب لغزو الاتحاد السوفياتي…..

 

أوربا القارة الصغيرة بمساحتها الجغرافية، الكبيرة بتعقيداتها و نزاعاتها الجيوسياسية، لن تستطيع أن تحتمل لقرن آخر وجود روسيا و بريطانيا كقوتين عظميتين فيها، الصراع الروسي البريطاني ليس صراع نفوذ و حسب إنما هو صراع وجود……

-انتهى الملف-

(سيرياهوم نيوز3-خاص بالموقع)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أنا والقمة والاعتذار عن وعد بلفور ..!

    د.جورج جبور   اخبرت صوت العرب في مقابلة هاتفية قبل لحظات ان الاعتذار عن الكلمات المؤسسة ل” اسرائيل”. وهي وعد بلفور امر يسبق ...