زياد غصن
لم يكن من باب المصادفة أن يتزامن انهيار الوضع المعيشي في البلاد مع دخول قانون “قيصر” حيز التنفيذ منتصف عام 2020؛ فالعقوبات الأميركية المستحدثة دشنت مرحلة جديدة من المعركة الاقتصادية ضد دمشق وحلفائها بذريعة ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على “النظام” لإجباره على الدخول في “عملية سياسية” لحل الأزمة.
وبعد نحو 30 شهراً، كانت النتيجة إفقار السوريين ومنعهم من الوصول إلى أبسط احتياجات البقاء كبشر. ولو أجرينا مقارنة بين تداعيات الزلزال الأخير، وما فعلته العقوبات بمعيشة السوريين واقتصادهم، لمالت كفّة العقوبات بوضوح، ولأسباب كثيرة.
صحيح أنَّ تشديد واشنطن عقوباتها على دمشق هو واحد من مجموعة عوامل أدت إلى تأزم الأوضاع الاقتصادية في البلاد، فهناك أزمة انتشار فيروس “كوفيد 19″، وتداعيات الأزمة الاقتصادية اللبنانية على الداخل السوري، والسياسات الاقتصادية الداخلية غير المتبصرة التي تعد محل انتقاد دائم، إلا أنَّ العقوبات الأميركية تتحمل الوزر الأكبر، لأنها عطلت اقتصاد بلد كامل من خلال:
– المساهمة في ارتفاع معدل التضخم بشكل كبير خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. وبحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء، فإن معدل التضخم السنوي عام 2020 وصل مقارنة بالعام السابق إلى نحو 163%، فيما تذهب تقديرات المركز السوري لبحوث السياسات إلى التأكيد أنَّ الرقم القياسي العام لأسعار المستهلك سجَّل تضخماً قدره 113.46% لعام 2020، و110.90% لعام 2021، و55.71% للنصف الأول من العام الماضي.
وعلى الرغم من خطورة التضخّم الذي أصاب جميع السلع والخدمات، يبقى التضخم الغذائي هو الأخطر، لكونه يهدد حياة ملايين الأشخاص وسلامتهم. ووفق بيانات المكتب المركزي، فإن التضخم الغذائي سجل عام 2020 نحو 169.5، فيما أشارت تقديرات المركز السوري لبحوث السياسات إلى أنَّ التضخم الغذائي سجل في العام نفسه نحو 132.99%، ونحو 110.47% عام 2021، ونحو 56.71% في النصف الأول من العام الماضي، وذلك مقارنة مع العام 2021.
– تراجع سعر صرف الليرة بشكل كبير خلال الأعوام الثلاثة الماضية، إذ انخفض سعر الصرف من نحو 450 ليرة مع بداية العام 2019 إلى نحو 2500 ليرة رسمياً في العام 2021، وإلى 6900 ليرة مع بدايات العام الحالي. هذا التراجع كان سببه الجوهري العقوبات على المصارف السورية، ومنع التحويلات الخارجية، وعرقلة الصادرات السورية، وارتفاع تكاليف الاستيراد، وغير ذلك.
– تراجع الإنتاج وفقاً لمعيارين: الأول هو المستوى المفترض أن يبلغه الإنتاج بعد استقرار الأوضاع الأمنية في مناطق عديدة، والآخر هو تراجع الإنتاج مقارنة بسنوات سابقة. هذا الأمر يمكن ملاحظته بوضوح في القطاع الزراعي والصناعي.
– منع الشركات والمؤسسات الإقليمية والدولية من التعاون الاستثماري مع المؤسسات السورية، وفرض عقوبات صريحة على قطاعات أساسية، كالطاقة وإعادة الإعمار والبناء، الأمر الذي أبقى البلاد في حال من الجمود الاستثماري، رغم استعادة مناطق واسعة حالة الاستقرار الأمني بعد عودتها إلى سيطرة الحكومة.
– تمركز رؤوس الأموال مع شيوع ظاهرة أثرياء الحرب وتجار الحصار في الداخل والخارج.
تدهور معيشي
منذ وقوع كارثة الزلزال، يتناول معظم الحديث العام أثر العقوبات الغربية في إمكانيات الحكومة المرتبطة بالتعامل مع تحديات عمليات الإنقاذ وتقديم الخدمات الأساسية من مأوى وطعام وعلاج لآلاف الأسر التي اضطرت إلى النزوح عن منازلها.
وغاب عن الجميع أن كارثة الزلزال، ومع استمر سريان العقوبات الغربية وضعف سياسات الاستجابة، سوف تفاقم الوضع المعيشي الصعب الذي تواجهه 95% من الأسر السورية التي لم تثنها ظروفها المأسوية عن التحرك وتقديم ما يمكنها للأسر المتضررة.
ولعل أكثر ما يستوقف المتابع للشأن الاقتصادي الحديث الأممي الأخير الذي أشار إلى أنَّ هناك ما يزيد على 15 مليون سوري بحاجة إلى مساعدة ودعم. وبصرف النظر عن دقة الرقم وكيفية احتسابه، فإنَّ عدد السوريين المحتاجين فعلاً إلى الدعم بات كبيراً جداً، في ضوء محدودية الدخل المتأثر بالوضع الاقتصادي العام، والارتفاع المتزايد لمعدل التضخم، بحسب البيانات التي نشرناها آنفاً. ونحن هنا لا نتحدث عن مناطق سيطرة الحكومة فحسب، إنما نتحدث أيضاً عن الجغرافيا الوطنية كاملة، وإن تباينت النسب بين منطقة وأخرى لاعتبارات معينة.
وبغية تقريب أثر كارثة الزلزال في حياة السوريين وأهمية المساعدة الإغاثية المطلوبة من المجتمع الدولي وحجمها المجدي، سنحاول التذكير ببعض نتائج مسوح الأمن الغذائي التي أجرتها الحكومة السورية سابقاً بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي، والتي تظهر حال الأسر السورية وفقاً لمستويات أمنها الغذائي، وسياسات التأقلم المخيفة التي لجأ إليها بعضها، علماً أنَّ أحدث بيانات يعود إلى نهاية العام 2020، وتالياً فهي اليوم، ونتيجة استمرار ارتفاع معدلات التضخم، تدهورت نحو الأسوأ بكثير.
تعرف منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) الأمن الغذائي بأنه “توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتين، وبما يلبي احتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة بسيطة ونشطة”. ووفقاً لهذا المفهوم، فقد شهد الأمن الغذائي في سورية تراجعاً مخيفاً خلال سنوات الحرب، في نتيجة طبيعية لعدة عوامل:
– تضرر القاعدة الإنتاجية للبلاد جراء الحرب والعقوبات، ولا سيما تلك المتعلقة بإنتاج السلع الغذائية.
-فقدان العديد من الأسر لمصادر دخلها وممتلكاتها واستنزافها مدخراتها.
– عدم قدرة أسر كثيرة على الوصول إلى الغذاء لأسباب أمنية أو اقتصادية أو اجتماعية.
– غياب شبكة حماية اجتماعية لمساعدة الأسر المحتاجة والفقيرة.
– نزوح أكثر من 6 ملايين شخص دخل البلاد، وما رتبه ذلك من أعباء معيشية على الأسر النازحة لجهة فقدانها مصادر دخلها وتحمل نفقات جديدة كالإيجار….
-السياسات الاقتصادية غير المحابية للفقراء وأصحاب الدخل المحدود.
بالأرقام الرسمية والأممية
في مسح الأمن الغذائي الأخير الذي جرى في نهاية العام 2020، أظهرت النتائج أنّ هناك أسراً ينام بعض أفرادها من دون طعام لعدم توفره، وأن هناك أسراً أخرى تعطي الأولوية لطعام الأطفال أولاً، في حين باعت أسر أخرى كل ما تمتلك في مسعاها لتأمين الطعام لأفرادها وغير ذلك.
يمكن التعرف أكثر إلى تأثير الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد منذ العام 2020، من خلال استعراض بعض البيانات الواردة في المسوح الأربعة التي قامت بها مؤسسات حكومية بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي في الأعوام 2015-2017-2020.
على سبيل المثال، وفق نتائج مسح العام 2015، بلغت نسبة الأسر السورية الفاقدة أمنها الغذائي نحو 33.4%. ونتيجة التحسن الأمني الذي طرأ عام 2017، فقد انخفضت النسبة لتصبح 31% بموجب مسح العام 2017، لكنها عاودت الارتفاع بشكل كبير لتتجاوز 55% مع نهاية العام 2020.
أما نسبة الأسر المهددة بفقدان أمنها الغذائي، فقد قُدرت في مسح العام 2015 بنحو 51.6%. وفي مسح العام 2017، تراجعت إلى 45.6% نتيجة تحسن الأوضاع الأمنية التي أسهمت في وصول المواطنين إلى الغذاء وانسياب السلع بين المحافظات.
وعادت النسبة إلى التراجع في العام 2020 إلى نحو 39.4%، بسبب انزلاق أسر كثيرة إلى خانة انعدام الأمن الغذائي بفعل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وهو تدهور يمكن ملاحظة مؤشراته من خلال التراجع المسجل في طبيعة الاستهلاك الغذائي للأسر التي انخفضت نسبة من يوصف استهلاكها بأنه عالي التنوع من 66% عام 2015 إلى 26% فقط مع نهاية عام 2020.
أما نسبة الأسر التي اتسم استهلاكها الغذائي بأنه متوسط التنوع، فقد بلغت نسبتها 27.4%، بعدما كانت 22.4% عام 2015، والأخطر كان في نسبة الأسر التي اتصف استهلاكها بأنه منخفض التنوع. تبلغ نسبة هذه الأسر نحو 46.7%، فيما لم تتجاوز نسبتها عام 2015 نحو 9.6%.
المؤلم في بيانات العام 2020 أن من بين الأسر التي تعاني انعداماً شديداً في أمنها الغذائي (نسبتها قدرت من إجمالي الأسر في البلاد 8.3%)، هناك نحو 14.1% تكررت واقعة عدم وجود غذاء لديها مرة واحدة أو مرتين في الشهر، و26% من الأسر نفسها تكرر بقاء أحد أفرادها من دون طعام يوماً كاملاً (لمدة 10 مرات أو أكثر شهرياً)، و17% من هذه الأسر أيضاً بات أحد أفرادها جائعاً ليوم واحد أو أكثر في الشهر.
ما التوقعات؟
بحسب التوقعات الأولية لنتائج تحديث المسح الذي جرى في العام الماضي، يمكن تسجيل مجموعة ملاحظات على حالة الأمن الغذائي للأسر السورية خلال الفترة الممتدة بين عامي 2020 و2022. ومن هذه الملاحظات:
– تعمق حالة انعدام الأمن الغذائي لدى الأسر الفاقدة أمنها الغذائي أو زيادة نسبة الأسر التي تعاني انعداماً شديداً في أمنها الغذائي، والمقدرة في مسح العام 2020 بنحو 8.3%.
– فقدان أسر كثيرة، ممن كانت تصنف ضمن الطبقة الهشة، أمنها الغذائي، ما يعني أن نسبة الأسر الفاقدة أمنها الغذائي ستزيد على 55% (سواء كان انعداماً شديداً أو متوسطاً).
– دخول بعض الأسر التي كانت تتمتع بأمن غذائي في دائرة التهديد بفقدان أمنها الغذائي.
تصبح هذه التوقعات أكثر تشاؤماً وبؤساً مع كارثة الزلزال الأخير؛ فالعديد من الأسر فقدت منازلها وممتلكاتها ومصدر رزقها، ولن تكون قادرة على استعادة حياتها الطبيعية في وقت قريب.
لذلك، فإن قبول المساعدة الإغاثية الدولية لم يكن عجزاً مجتمعياً، وطلب رفع العقوبات الغربية ليس استغلالاً لظرف إنساني، إنما محاولة لتجنب المزيد من تعمق الفقر وانعدام الأمن الغذائي وفتح مسارات جديدة للعمل لرفع تداعيات الزلزال بعدما تم الانتهاء من رفع أنقاضه.
سيرياهوم نيوز-الميادين