| د. سليمان الصدي
لوس أنجلوس- أمريكا
من أجمل ما قرأت من الأدب الفرنسي ” قصة رجل يدعى “بانورج ” كان في رحلة بحريّة على متن سفينة، وكان على نفس السفينة تاجر الأغنام “دندونو” ومعه قطيع من الخرفان المنقولة بغرض بيعها، وكان “دندونو” تاجراً جشعاً يمثل أسوأ ما في هذا العصر، وهو غياب الإنسانية.
وحدث أن وقع شجار على سطح المركب بين “بانورج” والتاجر “دندونو” صمم على أثره “بانورج” أن ينتقم من التاجر الجشع، فقرّر شراء خروف من التاجر بسعر عال، وسط سعادة دوندونو بالصفقة الرابحة.
وفي مشهد غريب يمسك “بانورج” بالخروف من قرنيه، ويجرّه بقوة إلى طرف السفينة، ثم يلقي به إلى البحر، فما كان من أحد الخرفان إلاّ أنْ تبع خطا الخروف الغريق ليلقى مصيره، ليلحقه الثاني فالثالث والرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في “طابور مهيب” لتمارس دورها في القفز.
جُنّ جنون تاجر الأغنام “دندونو” وهو يحاول منع القطيع من القفز إلى الماء، لكنّ محاولاته كلها باءت بالفشل، فقد كان “إيمان” الخرفان بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يُقاوم.
وبدافع قوي من الجشع اندفع “دندونو” للإمساك بآخر الخرفان الأحياء آملا في إنقاذه من مصيره المحتوم، إلّا أن الخروف “المؤمن” كان مصراً على الانسياق وراء الخرفان، فكان أنْ سقط كلاهما في الماء ليموتا معاً غرقاً.
ومن هذه القصة صار تعبير “خرفان بانورج” مصطلحاً شائعاً في اللغة الفرنسية ويعني انسياق الجماعة بلا وعي أو إرادة وراء آراء الآخرين. وليس أخطر على مجتمع ما من تنامي روح القطيع لديه.
لقد رأينا صورة عن “خرفان بانورج ” وهي تردد كلاماً، لمجرد أنها سمعت من يقول ذلك، وقد أعطانا الله سلاحي: العقل لنستخدمه، والحرية لنختار طريقة تحقيق الهدف.
لقد آلمنا كثيراً حدوث زلزال في بلدي الغالي سورية التي تشهد حرباً كونية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً منذ أكثر من عقد من الزمن، لكن لكلّ زمن خرفانه، وخرافاته، ومن هذه الخرافات التي كان القدامى يؤمنون بها أن الأرض تتربع على قرني ثور، فإذا تعب أحد القرنين مالت الأرض إلى القرن الثاني فيحدث زلزال عظيم، وقد وجدتُ أن هذه الخرافة التي انساق وراءها خرفان كثر فيما مضى من الزمن قد تحولت الآن إلى قرني أمريكا بدلاً من الثور، ولا شك في أن من يظن أن أمريكا قادرة على صنع زلازل في مناطق محددة يخدمها؛ لأنها ومنذ أن وُجدت تسعى إلى اتخاذ دور السيد صاحب الخراف التي تتبعه أنّى توجه، وصار بعض الناس يظن أنّ أمريكا قوة عظمى لا تغيب عنها الشمس.
ما من شك في أن أمريكا دولة متقدمة علمياً، وحققت قفزتين: علمية وتقنية، ونذكر أنّ أمريكا تتخذ سلاح الإعلام لإيهام العالم بقدرتها الخارقة، فكلما حدث تقدّم تقني خرج الرئيس الأمريكي بنفسه ليعلنه للعالم، بهدف إظهار أمريكا بأنّها تمسك بمصائر البشر، كإكتشافها دلائل حياة على كوكب آخر مثلاً، لكننا يجب ألا ننسى آلة الإعلام الرهيبة التي تجعل ممّن يتابع أخبارها شبيهاً بخرفان بانورج، وتحدث كثيرون عن سلاح هارب، وقدرته على التحكم في المناخ العالمي، وإحداث الأعاصير والرياح، وآخرها الزلازل في سورية وتركيا، وصار هنالك من يدافع عن نظرية صنع أمريكا زلازل سورية وتركيا، ويجر وراءه قطعان خراف، وهو لا يعلم أنه يقدم لها هدية ثمينة هي تسعى إليها، وتحدثوا عن التفجير الذري قرب الصفائح التكتونية الذي أدى إلى خلخلتها وأطلق طاقة زلزالية هائلة، ودليلهم أنّ بعض الدول الغربية سحبت قنصلياتها من استنبول قبل أيام من وقوع الزلزال، وانساقوا وراء فرانك الذي تنبأ بوقوع الزلزال قبل ثلاثة أيام، وهم لا يعرفون أنهم يفعّلون دور الخروف الأول في قطعان بانورج، ويجعلون الآخرين ينساقون وراء وهم قوة أمريكا الرهيبة التي تجعلها سيد العالم أجمع، ويحاولون إقناع العالم أنّ قرن أمريكا قد تعب، فنقلت الأرض إلى قرنها الثاني، ولم يسألوا أنفسهم: إذا كانت أمريكا قادرة على اصطناع زلازل ومنع حدوث أخرى لماذا تحدث زلازل على الأراضي الأمريكية؟ ولماذا تحدث زلازل في بقاع العالم الذي نعيش فيه والذي يتحرك على صفائح لا تعرف السكون؟ ولماذا لم تستفد اليابان من هذا العلم الهائل، وهي التي تشهد زلازل مستمرة؟ ولماذا لم توجه أمريكا زلازلها إلى أعدائها: روسيا والصين وكوريا الشمالية مثلاً؟ وإذا كانت قادرة على تغيير المناخ وإحداث الأعاصير لماذا لا توقف غضب الطبيعة على أراضيها؟ وكيف حفرت أمريكا عميقاً في الأراضي التركية ونقلت القنابل الذرية، ولم تنتبه تركيا إلى هذا العمل.
المنطقة معروفة بأنها نشطة زلزالياً، والزلازل موجودة منذ أن وجدت الأرض، ولكن إذا كان من كلام في هذا الميدان يجب أن نتحول من تحويل أمريكا إلى آلهة إلى الدور التركي الذي كان له يد في حجم هذا الزلزال، وهو السياسة التركية التي جمعت حجماً هائلاً من المياه في سدود على أراضيها، فتسببت بضغط شديد على القشرة الأرضية، لماذا غفلوا عن جشع تركيا، وحرب الماء التي مارستها على سورية والعراق؟ لكن السحر انقلب على الساحر، وما ظنت تركيا أنها تحارب به انقلب ضدها، وربما يحتاج هذا الكلام أيضاً إلى تأكيد علمي، لكننا نراقب بعين العقل أن النشاط الزلزالي قد كثر في تركيا في المدة الأخيرة، فثمة زلزال 1999 بفارق ثلاثة وعشرين عاماً عن هذا الزلزال المدمر، لقد انتقم الماء من حابسه، فثار الماء في وجه طغيان السياسة التركية، ونحن في سورية ندرك بعقلنا أن لأمريكا حجماً، وأن لتركيا حجماً، ولن نفعل كما فعل خرفان بانورج، لكننا ندرك أن للطبيعة نظاماً، وأنها تغضب، ثم تهدأ، لكن سلوك بعض البشر قد يزيد غضبها.
(سيرياهوم نبوز3-خاص)